عقدت يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين القمة العربية الاقتصادية الثالثة في العاصمة الرياض، وقد حضرها عددٌ كبير من الزعماء العرب، وكانت قمتان قد عقدتا قبل ذلك في كل من الكويت وشرم الشيخ. وقد تميّزت القمة الأخيرة بعقد جلسة مسبقة بين رجال الأعمال والمستثمرين العرب، الذين طالبوا القادة السياسيين بتسهيل إجراءات الاستثمار، وتقليص العوائق التي تواجه المستثمرين، عرباً كانوا أو أجانب، في الأسواق العربية الناشئة. وتميّزت هذه القمة العربية أيضاً بأنها تعقد بعد غياب العديد من الزعماء العرب التقليديين الذين عمّروا القمم السابقة بنزاعاتهم وتصريحاتهم النارية. كما تميّزت هذه القمة كذلك بأنها تُعقد لأول مرة بعد أحداث ما بات يسمى «الربيع العربي»، والتركة الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تركتها هذه الأحداث على الوضع الاقتصادي والأمني للدول العربية المعنية. فقد شهدت الدول العربية هروباً واسعاً للاستثمارات نتيجة هذه الأحداث. ولقد عانت مصر، على سبيل المثال، هبوطاً في قيمة البورصة المصرية اقترب من إهلاك نصف قيمة الأسهم المدرجة فيها. كما أصبح نصف السكان من الفقراء، وتقلّص حجم الاحتياطي النقدي من 35 مليار دولار في بداية عام 2011، إلى 15 مليار دولار بنهاية عام 2012، وتقلّصت الاستثمارات فيها من 2,9 مليار دولار، إلى 219 مليون دولار. وأصبح البنك المركزي يعاني من مديونية بلغت تريليون جنيه مصري، أو 51 مليار دولار. ولعلّ الاقتصاد المصري، برغم كل ما يعانيه، سيكون أقرب إلى النهوض عن سواه من الاقتصادات العربية الأخرى التي تراجعت بشكلٍ حاد نتيجة للأحداث السياسية، سواءً في اليمن أو في سوريا. فنتائج تلك الأحداث والحروب الأهلية ستفوق تداعياتها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية ما تعرّض له الاقتصاد المصري من تراجع خلال العامين الماضيين. ولذا فقد ركزت هذه القمة الاقتصادية العربية الثالثة على دعم المؤسسات الاقتصادية العربية المشتركة بزيادة خمسين في المئة من رأسمالها، على أن يصل هذا الدعم الجديد إلى عشرة مليارات دولار. كما قدّمت المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج دعماً مباشراً إلى صندوق المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، بمبلغ مليار وسبعمائة مليون دولار. ولا شكّ أنّ دول الخليج بفوائضها المالية الحالية، سواءً الحكومية منها أو الخاصة، بحاجة إلى مجالات جديدة للاستثمار سواءً في البلدان العربية أو خارجها. ويجب أن يكون استقطاب الأسواق العربية لهذه الاستثمارات على أساس حساب جدوى اقتصادي بحت، وليس سياسيّاً. فدول الخليج العربية ترغب في استقرار سياسي في الدول العربية المحيطة بها. ولكن الظروف الاقتصادية والعوائق غير الموضوعية التي توضع من قِبل بعض الدول المستقبلة للاستثمار، ربما تصبح عائقاً فعلياً أمام انسياب استثمارات جديدة فيها، وخاصة مع وجود بعض المصاعب التي تقابل بعض الاستثمارات القديمة فيها. ومثل ذلك ينطبق على السياحة، فالسائح العربي لا يمتنع عن دفع الضرائب المفروضة على قوائم الإقامة في الفنادق والمنشآت السياحية في هذه البلدان، ولكن تعرّض سياراته وأمتعته في بعض الأحيان للسرقة، أو الابتزاز من قِبل بعض أصحاب الضمائر الضعيفة، يجعل هذا السائح العربي يفضّل في بعض الأحيان قضاء إجازته السنوية بعيداً عن البلدان العربية الغنيّة بالتراث والثقافة. ولعلّ ما قيل من تعديل أُحدث في الاتفاقية الجديدة المعدّلة للاستثمار في البلدان العربية، بالرغم من أنّ كاتب هذه السطور لم يتمكن من الاطلاع على بنودها، كفيل بأن تخفف جزءاً من توجّس المستثمرين في البلدان العربية التي تحتاج فعلاً لاستثمار أجنبي يحرّك اقتصادها، ويخلق وظائف جديدة لمواطنيها. ويبدو أن الدول العربية يجب أن تبتعد قليلا عن موضوع الفيل الأكبر أو الاستثمارات الضخمة في مشاريع كبرى مثل إنشاء الموانئ أو السكك الحديدية، ليس لعدم أهميتها بل لأنها تكلف الكثير ولا يمكن السيطرة على مصروفاتها. والأفضل من ذلك هو دعم المشاريع الصغيرة التي توفر الوظيفة للناس في المدن الصغيرة والأرياف، عبر قروض شخصية مأمونه يتم استعادتها خلال عامين أو ثلاثة كما هو الحال مع بنك الفقراء في بنجلاديش. وإشكالية البلدان العربية قليلة النمو في الوقت الحاضر، إشكالات بعضها هيكلي مثل عدم التوازن بين عدد السكان والموارد الاقتصادية والمائية المتاحة لها، وكذلك بعض الإشكالات العميقة الخاصة بإيجاد نقطة توازن بين مسألة الأمن والتنمية. فالعلاقة بينهما هي بالتأكيد علاقة عضوية، وكلما عمقنا من البيئة الأمنية والاستقرار القانوني والقضائي، مع الحفاظ على حرية الأفراد، كلما خلقنا أجواء مثالية لوضع اقتصادي مميّز يتمتع فيه المستثمر والعامل والمنتج والسلطات المشرفة على عملية الإنتاج بعائد وقيمة أكبر، تخلق لنا ثروة أكبر يستفيد منها الجميع. فالمستثمر سيحصل على عائد مجزٍ لاستثماراته، وسيحصل العاملون على أجور أكبر مما كانوا يحصلون عليه من قبل، كما أنّ السلطات المعنيّة ستحصل على قدر معقول من دخل الضرائب المنافسة مع مثيلاتها في الدول الصناعية الناشئة الأخرى. والجدوى الاقتصادية والمسؤولية الاجتماعية هما المعياران الحقيقيان في ظل بيئة سياسية وأمنية مستقرّة، لنجاح مشروع التنمية العربية. وإذا ما اعتمد الساسة في بلدان «الربيع العربي» على طلب المعونات والقروض دون نمو اقتصادي حقيقي، فإنهم يرهنون مستقبل مجتمعاتهم، ويساهمون في تراجع مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية.