تتلخص أهم أسباب الحركة الاحتجاجية السلمية الضخمة التي انطلقت في بعض البلدان العربية أواخر عام 2010 ومطلع عام 2011، والتي بات الكثيرون يسمونها «الربيع العربي»، في انتشار الفساد بصوره المختلفة والتضييق السياسي والأمني، علاوة على تزوير الانتخابات التي كانت وسيلة لتكريس الاستبداد وإقصاء الشعوب عن المشاركة في الحكم، وأداة لزعزعة الاستقرار، بالإضافة للركود الاقتصادي وسوء الأحوال المعيشية، علاوة على مشاريع توريث الحكم لأبناء الرؤساء الذين جاؤوا إلى الكراسي بطرق غير شرعية، وتمسكوا بها اعتماداً على أساليب قمعية، ناهيك عن أن معظم هذه الدول امتلكت سجلا سيئاً في حقوق الإنسان وكأني بها تعيش في القرون الوسطى. لذا، فقد كانت الحركات الاحتجاجية في حقيقتها حركات شعبية ضد نظم تجاهلت منذ عقود التنمية الحقيقية لمجتمعاتها واستمرأت اضطهاد مواطنيها. واليوم، تواجه دول «الربيع العربي»، بلا استثناء تقريباً، مشكلات عديدة واحباطات متزايدة جعلت البعض يتحسر على الأنظمة البائدة. ورغم أن هذا البعض يرى فيما يقوله طرحاً مخجلا لنفسه، إلا أنه حقيقة واقعية لا يمكن تجاهلها. فاليوم نشاهد تلك الجماهير نفسها التي خرجت تطالب بإسقاط الأنظمة الفاسدة، تخرج مجدداً تنادي بسقوط أنظمة جاء بها «الربيع العربي»، رغم إقرارنا بأن «الحدث» في مجمله لم يتجاوز أشهراً في بلدان عاشت عقوداً من الاستبداد والفساد، وأن هذه الدول تعيش مرحلة انتقالية يتوقع فيها حدوث أي شيء من نوع الانقسام القائم و«الطبيعي» في الآراء وتعطل العملية السياسية. لكن الخوف اليوم هو في استمرار هكذا وضع، حيث باتت الخشية تدور حول الصراع المذهبي والطائفي اللذين استشريا في الجسد الشعبي العربي: الأقباط والمسلمون في مصر، التوتر الثلاثي السني العلوي الكردي في سوريا، وكذلك السني الشيعي والعربي الكردي في العراق، دون أن ننسى الانقسامات في لبنان، والصراعات القبلية المذهبية في اليمن، بل حتى خلافات الإسلاميين (الحكام الجدد) مع بقية قوى المجتمع في ليبيا وتونس وأخيراً في مصر. السؤال المحوري الهام، كما بدأ كثيرون يطرحونه، جهراً بعد أن كان همساً، مؤداه: فيما قبل، وأيام الزعيم المستبد، كان الاستقرار أهم عامل يميز هذه الدول، فما بال الحرية اليوم جاءت بالفوضى، وبالقتلى والجرحى والاعتقالات؟!! لقد أدت تلك التطورات كلها مجتمعة إلى تهديد الاستقرار متواكباً مع حالة إحباط شديدة (إن لم يكن يأساً) جعلت هؤلاء يعانون الحنين إلى العهود السابقة، رغم ما فيها من مآس، حين كان الشعب كله يهتف بحياة و«إنجازات» قائد الوطن وزعيم الأمة! في التاسع من إبريل عام 2005، أدلت وزيرة الخارجية الأميركية في حينها كونداليزا رايس، بحديث لصحيفة «الواشنطن بوست» أعلنت فيه رسمياً نية الإدارة الأميركية نشر الديمقراطية في العالم العربي «بعد ستين سنة من سياسة خارجية دعمت النظم الاستبدادية»، مستخدمة أحد نصوص الماسونية كي تشرح للعالم كيفية انتقال الدول العربية والإسلامية من العهد الديكتاتوري إلى العصر الديمقراطي عبر نشر «الفوضى الخلاقة»، أي إحداث حالة اجتماعية واقتصادية مريحة بعد إحداث فوضى مقصودة! ومع أننا لسنا من مؤيدي نظرية المؤامرة في كل معضلة، ورغم الأيدي الخفية العديدة في بعض الأزمات العربية، إلا أنه حقيقة، وكما يرى كثيرون، فإن التشرذم الطاغي اليوم في دول «الربيع العربي» من أكبر الأخطار، خاصة مع بروز قوى على سطح العمل السياسي تترسخ في المجتمعات عبر صراعات ونزاعات تخفي تحتها الكثير: خلافات جهوية وطائفية ومذهبية نابعة من أنانية مصلحية ضيقة. نحن نعرف أن «الربيع العربي» كان نتاج أوضاع داخلية متردية اقتصادياً وسياسياً أفرزتها تراكمات حكم الاستبداد وممارسات الفساد، وأدت إلى إحباط عميق في أوساط قطاعات عديدة، خصوصاً جيل الشباب الذي لم يعد يرى المستقبل الواعد أمامه. لكن المشهد الراهن في دول «الربيع العربي» يعكس اليوم حالة من التخوين والتشدد في المطالب وصعوبة في تقبل الآراء المخالفة واستسهالا في النزول إلى الشارع. والظاهر أنه لا بوادر كافية وملموسة وقوية تطمئن وتبشر بسنوات الخير الموعودة سياسياً واقتصادياً. وفي هذا السياق، تحدّث صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير عن الطفرة المتوقعة في مؤشرات النمو في اقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لكنه أبقى الغموض مستمراً بالنسبة لأداء دول «الربيع العربي»، حيث حذّر «ديفيد ليبتون»، النائب الأول لمدير الصندوق، من مواجهتها ثلاثة سيناريوهات: «التدهور الاقتصادي إذا استمرت حالة الصراع السياسي وفشلت النخبة في تجاوز هذا الصراع، أو استقرار الوضع الراهن وهو ما قد يؤدي لمزيد من الكساد والضعف الاقتصادي في حالة استمرار المصالح المسيطرة على عالم الأعمال خاصة وأن صادرات الشرق الأوسط بأكمله تبلغ نحو 365 مليار دولار، وهي قيمة صادرات بلجيكا بمفردها والتي لا يتجاوز عدد سكانها 10 ملايين نسمه. والسيناريو الثالث بناء اقتصاد جديد وتحقيق نمو اقتصادي كبير بشرط القضاء على الاضطرابات الاقتصادية واضطلاع حكومات دول الربيع بالإصلاحات اللازمة لإتاحة فرصة اقتصادية حقيقية لشعوبها». وفي هذا، استخلص الاقتصادي العربي الدكتور جورج العبد، خلال ندوة عقدت مؤخراً بعنوان «العالم العربي على عتبة التغيير: الفرص والمخاطر»: أن الحراك السياسي لم يكن بلا ثمن، حيث يشير إلى تطور العجز في ميزان المدفوعات بهذه الدول، حتى بلغ ما مجموعه 40 مليار دولار في عام 2012 وسط توقعات ضئيلة بانخفاض هذا العجز حالياً. وبحسب التقديرات الأولية، يقول (العبد): «باتت دول «الربيع العربي» تحتاج إلى تمويل خارجي بواقع 16 مليار دولار لمصر، وستة مليارات دولار لتونس، وعشرة مليارات دولار للمغرب، وسبعة مليارات للأردن»! يصعب على أي محلل سياسي أو اقتصادي أن يخرج بنتيجة واضحة سوى القول بأن المنطقة مقبلة على مجهول، فالصراع حاد بين قوى كثيرة: إسلامية وقومية وعلمانية وليبرالية ويسارية، ربما يكون بعضها مرتبطاً بالخارج، صراع يصل إلى حافة الاشتباك.