ذهبت إلى ألمانيا الأسبوع الماضي بدعوة من جامعة إيرفورت العريقة لحضور حلقة بحث دولية تحت عنوان "الحركات الإسلامية في مصر وتونس كأطراف فاعلة في عمليات التحول السياسي" لكن جدول الأعمال لم يقتصر على الحديث عن أنفسنا، بل امتد إلى حديث الألمان عن أنفسهم أيضاً، فعرفنا منهم الكثير عن الإسلام والمسلمين في بلادهم. كان ضمن الحاضرين باحثون ينتمون إلى جامعات ألمانية عدة، فضلاً عن مراكز أبحاث، وقد تحدثوا في أمور عامة، ثم أمور أكثر خصوصية، فتناولنا الإسلاميين في مصر وتونس ومضاهاتهم بتركيا، ودور الأزهر في الحفاظ على الاعتدال والوسطية الدينية. وليس هنا مجال للحديث عن أنفسنا، فالقارئ يعرف الكثير عن وضع "الإخوان" والسلفيين و"الجهاديين" في مصر وتونس، لكن المهم هو ما قاله الألمان عن الإسلام والمسلمين والحركات الإسلامية، المعتدل منها والمتطرف، وهو ما أوضحه في محاضرة عميقة الدكتور أولاف فارشيد، أستاذ العلوم السياسية، ومستشار وزارة الداخلية بولاية برلين، الذي انطلق من تقسيم حركات الإسلام السياسي في بلاده إلى "إسلاميين براجماتيين" و"سلفيين راديكاليين" و"إسلاميين معتدلين"، ووزعهم على البلاد التي انحدروا منها إلى عرب وإيرانيين وأتراك وآسيويين، فضلاً بالطبع عمن أسلموا من الألمان الأصليين، والأهم أنه فرّق بين "الإسلام" و"الإسلاموية" ورفض التصورات الغربية عن معاداة الإسلام للديمقراطية وتحريضه على العنف وعدم الاندماج في المجتمعات الغربية وتكفير أهلها. وقال "يجب ألا نعمم هذا أبداً"، وانتقد بشدة اعتبار بعض الألمان أن "الإسلام عدوان على المجتمع الألماني" وقيام هيئات حكومية ببث دعاية تحاول أن تصور الإسلام على أنه "جماعات سلفية وأصولية متشددة" وليس "دين تسامح ورحمة وعدل". وبناء على هذه المحاضرة، وكذلك على ما دار حولها من مناقشات، وما جرى في محاضرات غيرها، وتحدث به كثيرون على هامش الحلقة البحثية التي استمرت ثلاثة أيام من العمل المكثف والجاد، يمكن رسم خريطة الحركات الإسلامية في ألمانيا كالتالي: 1 - يعيش في ألمانيا أكثر من ثلاثة ملايين مسلم، نحو 38 ألفاً منهم بما يعادل نسبة 1%، ينضوون تحت لواء الحركات الإسلامية بمختلف ألوانها، وأكبرها حركة "ميلي جيروش" التي تتبنى أفكار نجم الدين أربكان مؤسس حزب "الرفاه" التركي، ويبلغ عدد أعضائها 31 ألفاً، ولكنها إن كانت تلقى امتعاضاً بين الألمان عموماً، فإن كثيرين يرون أنها لا تشكل تحدياً كبيراً، أو تمثل مشكلة عويصة، لأن هذه الحركة تنبذ العنف والتطرف، وتندمج في المجتمع الألماني، وذلك على العكس من "جماعة دولة الخلافة" التركية أيضاً، التي ترفع شعار "القرآن دستورنا" وتدعو للعودة إلى إقامة "الخلافة" الإسلامية من غانة إلى فرغانة، وترفض الديمقراطية، ولذا تم حظرها، ولكن أفرادها موجودون في ألمانيا، يحاولون أن يمارسوا عملهم في سرية وتكتم. 2 ـ يبلغ عدد من ينتمون إلى جماعة "الإخوان المسلمين" في ألمانيا نحو ثلاثة آلاف عضو تحت اسم "رابطة المسلمين في ألمانيا" IGD وهم يؤكدون دوماً أنهم غير تابعين مباشرة للجماعة الأم، ولكنهم يستقبلون قيادات إخوانية عربية، ولاسيما مصرية، ويجرون اجتماعات مستمرة معها، ويحرصون على وصفها بأنها "اجتماعات تناقش قضايا عامة" لكن الحكومة الألمانية تضعهم تحت المراقبة الدائمة الناعمة، وفق ما قاله د. فارشيلد، ولديها معلومات يقينية أن هذه الاجتماعات لها علاقة بما يشغل "التنظيم الدولي للإخوان"، وأنها جزء لا يتجزأ منه. ومن ضمن المؤسسات القريبة من "الإخوان" في ألمانيا "المجلس المركزي للمسلمين"، الذي يرأسه سوري درس في الأزهر هو أيمن مزبك، ويطالب بتغيير جذري للكثير من المفاهيم السائدة حول الإسلام، ولا ينظر إلى الإسلام، باعتباره "ديناً ودولة" إنما ديناً سماوياً خاتماً. 3 - انتشر السلفيون في ألمانيا بصورة واضحة بين المسلمين هناك، وتمكنوا من استقطاب أشخاص ألمانيي الأصل، فأسلموا وصاروا معتنقين للآراء الفقهية السلفية، ويستخدمون شبكة الإنترنت في "الدعوة" بشكل واضح، وبعض مواقعهم حظرتها الحكومة، ولكن بعضها مستمر في العمل. وقد تمكن السلفيون من جذب لاعب الملاكمة الألماني الشهير بيير فوجل إلى الإسلام، وتحول إلى داعية وخطيب يطالب العرب والمسلمين بتطبيق الشريعة في بلدانهم، ولكنه لا يطلب هذا من الألمان، وقد أصبح ضيفاً على بعض الإذاعات الألمانية للحديث عن "التربية الإسلامية". وقد تفاعل السلفيون في ألمانيا مع التغييرات العربية، لكنهم تعاملوا معها على أنها "انتفاضات إسلامية" وأصبحوا يتحدثون عن "صحوة إسلامية" ويستعملون عبارات من قبيل "الإسلام عائد" و"لا حل إلا بالإسلام" و"العودة إلى الأصول". وبعضهم شد رحاله إلى مصر وتونس واليمن، بعد سقوط مبارك وبن علي وصالح، ومنهم من أقام معسكرات تدريب في اليمن، وهناك من ذهب إلى سيناء للانضمام إلى الجماعات "الجهادية" هناك، ومنهم من انخرط في الحياة السياسية بعد إقامة السلفيين لأحزاب تتنافس على السلطة. ومشكلة السلفيين بالنسبة للسلطات الألمانية أنهم يعتنقون أفكاراً غير مقبولة بالنسبة للمجتمعات الغربية عموماً منها، العداء الصارخ لليهود، وإشاعة ثقافة "الاستشهاد"، وتقسم العالم إلى فسطاطين: دار إسلام ودار حرب، والدعوة إلى تطبيق الشريعة بشكل كامل ومطلق، ورفض النظام الديمقراطي، واعتباره "شركا"، واعتبار البرلمان "بدعة"، ورمي أي مسلم ينضم إليه بأنه "مرتد" ووصف تعدد الأحزاب بأنه "طاغوت"، فيما يأخذ معنى "الولاء والبراء" لديهم الولاء الكامل للسلفية والبراء من المجتمع الألماني. 4 ـ من بين المسلمين هناك أتباع للطرق الصوفية، لاسيما القادمة من تركيا وإيران، وهم يتفاعلون بإيجابية كبيرة داخل المجتمع هناك، ويجذبون كثيرين، ممن يبحثون عن الامتلاء الروحي، وخاصة من النساء. ونظراً لأنهم يدعون إلى الاندماج في المجتمع وقبول الكثير من قيمه وأفكاره، ولا يرفضون الديمقراطية، فلا يشكلون أي تحدٍّ للسلطات هناك، ويبدو الأفق مفتوحاً أمامهم لجذب مزيد من المسلمين المقيمين في ألمانيا أو الألمان أنفسهم، ولكنهم يفتقدون التنظيم والإمكانات المادية. 5 ـ هناك خلايا وتجمعات أصغر لحركات إسلامية أخرى، مثل "حزب التحرير" الذي يجعل إعادة الخلافة مشروعه وهدفه، وينادي بمبدأ "الحاكمية"، ومجموعات تابعة لـ"حزب الله" و"حماس"، وهي مهتمة بجمع التبرعات، والدعاية السياسية، ويقيمون "يوم القدس" كل عام، ويتخذونه فرصة لحشد الرأي العام المسلم في ألمانيا حول قضية الصراع العربي- الإسرائيلي. وهناك "مجلس الشورى الإسلامي" المنهمك في إقامة المشاريع، وهناك خلايا تدعو إلى "الجهاد" المسلح في الشرق الأوسط، تتبنى أفكار "القاعدة".