شكل التصويت الذي جرى يوم 29 نوفمبر عام 2012 في الجمعية العامة للأمم المتحدة لترقية فلسطين إلى دولة غير عضو في الهيئة الدولية حدثاً تاريخياً بكل المقاييس، حيث احتُفل به ليس فقط من قبل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل أيضاً في المحافل الدولية التي اعتبرت ما جرى انتصاراً حقيقياً للنضال الفلسطيني المدني وخطوة متقدمة على طريق إقامة الدولة المستقلة. لكن رغم حالة الانتشاء التي أعقبت التصويت بالأغلبية لصالح الدولة والشعور بالفرحة الذي عم الفلسطينيين، تبقى الحقيقة أن التصويت لن يغير كثيراً من المعطيات على الأرض، إذ سيظل الجنود الإسرائيليون يقتحمون البلدات والقرى الفلسطينية كلما بدا لهم ذلك، وستبقى نقاط التفتيش التي تعيق حركة الفلسطينيين وتمتهن كرامتهم على المعابر الحدودية، كما ستبقى إسرائيل مسيطرة على الجزء الأكبر من الضفة الغربية. فالدولة العبرية ما زالت كما كانت تحتل الأراضي الفلسطينية، وتتحكم في حياة الناس، بل حتى الرئيس الفلسطيني لا يستطيع التنقل خارج فلسطين دون ترخيص من السلطات الإسرائيلية التي تمنح الشخصيات الفلسطينية البارزة تصاريح التنقل، وكأن هذا التحكم في مصائر الناس لا يكفي، قررت الحكومة الإسرائيلية مباشرة بعد الهزيمة التي منيت بها في الأمم المتحدة، إذ كانت تمني النفس بحشد على الأقل عدد من الدول العالمية الوازنة دون جدوى، البدء في تشييد وحدات استيطانية جديدة يصل عددها إلى ثلاثة آلاف منزل لليهود في مناطق تقع في عمق الضفة الغربية، بل تفصل القدس الشرقية التي يراد لها أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية عن محيطها الطبيعي في الضفة الغربية وإبعاد المدينة المقدسة عن امتدادها الجغرافي ذي الكثافة العربية والرمزية المسيحية في بيت لحم. والأكثر من ذلك وإمعاناً في معاقبة الفلسطينيين على جرأتهم بالتوجه إلى الأمم المتحدة، قررت إسرائيل قطع عائدات الضرائب التي تجبيها نيابة عن السلطة الفلسطينية في محاولة لتأزيم الوضع المالي للسلطة. لكن مع ذلك يبقى التحرك الفلسطيني في الأمم المتحدة وما نتج عنه من ترقية الوضع الفلسطيني انتصاراً سياسياً ودبلوماسياً حقيقياً لعباس سواء على الصعيد الدولي بتصويت الأغلبية الساحقة من الدول لصالح فلسطين، أو داخلياً بمساندة «حماس» ودعمها للذهاب إلى الأمم المتحدة. ولعل أهمية التحرك الفلسطيني، تكمن في إسباغ شرعية إضافية على مسعى إقامة الدولة الفلسطينية وضرب مصداقية إسرائيل، فالأمر بعد التصويت الأممي لم يعد يتعلق بأراض فلسطينية محتلة، بل بدولة واقعة تحت الاحتلال تسعى للتحرر والانعتاق المشروع. ومرة أخرى كرست إسرائيل ومعها الولايات المتحدة عزلتهما على الصعيد الدولي بعد تصويت تسع دول فقط ضد فلسطين هي الولايات المتحدة وإسرائيل وكندا وجمهورية التشيك وبنما، وميكرونيزيا، وبعض الجزر المجهرية مثل نورو وبالو وجزر مارشال، في حين صوتت 138 دولة لصالح فلسطين، وهو ما يمثل الأغلبية الساحقة لدول العالم وسكان الأرض فيما امتنعت 41 دولة عن التصويت، بل الأكثر من ذلك ظهر جلياً أن الولايات المتحدة وهي الراعية الأساسية للعملية السلمية، لم تعد قادرة على مواصلة البحث عن حل بسبب انحيازها الواضح لطرف على حساب آخر. فهي بعد مطالبة الحكومة الإسرائيلية بإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية، وجد أوباما نفسه عاجزاً عن الضغط على نتنياهو وإجباره على وقف حملته الاستيطانية الشرسة في الضفة الغربية. والمشكلة أن الدور الأميركي يبقى ضرورياً للوصول إلى حل لغياب قوة بديلة تقوم بمهمة الوساطة، فهل تنفض الولايات المتحدة عنها غبار العجز وتنخرط بجدية في إيجاد حل سياسي للصراع الذي لن يخرج في جميع الأحوال عن مبدأ الدولتين؟ وهل ستنتظر ما ستسفر عنه الانتخابات الإسرائيلية علَّ ذلك يقود إلى تغيير في المواقف الإسرائيلية؟ الحقيقة أن مثل هذا الانتظار لن يصب في مصلحة الدولتين، لا سيما في ظل التوقعات بصعود حكومة أكثر يمينية في إسرائيل تبني حملتها الانتخابية وبرنامجها السياسي على مزيد من التضييق على الفلسطينيين، بل تتبارى في إظهار تطرفها ورفضها لحل الدولتين، ولهذا يتعين على إدارة أوباما الانخراط في حملة مضادة للتصدي لنتنياهو والسعي للتأثير، بما تتمتع به الولايات المتحدة من نفوذ داخل إسرائيل، على التوجهات الانتخابية، تماماً كما سعى نتنياهو نفسه إلى التأثير على الناخبين اليهود على الأقل في الحملة الانتخابية الأميركية وانحيازه لميت رومني. لكن في جميع الأحوال، تكمن المشكلة الأساسية في الاختلال الكبير في موازين القوى بين أطراف الصراع، وفي ظل هذا الاختلال لا ترى إسرائيل من ضرورة تدفعها لتقديم تنازلات للفلسطينيين، بل تستميت في سياستها التوسعية موقنة أن الوقت في صالحها، وأنها بانتهاجها سياسة فرض الأمر الواقع على الأرض وحمايته يمكنها المراهنة على الزمن لتلاشي حل الدولتين، أو على الأقل تقزيم الدولة الفلسطينية إلى أبعد الحدود، وبمرور كل يوم على تكريس واقع الاحتلال يتراجع احتمال قيام الدولة الفلسطينية، والمشكلة الأخرى في هذا الصراع أن المجتمع الدولي يساعد إسرائيل في مسعاها الاحتلالي لما يظهره من عجز في الضغط عليها وحملها على احترام القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. وإذا كانت الولايات المتحدة نفسها الراعية للعملية السلمية عاجزة عن إحداث التغيير وإحراز التقدم، فإن باقي الدول، رغم دورها العالمي البارز سواء الأوروبية منها، أو غيرها، ستبقى هي الأخرى عاجزة وغير قادرة على التدخل للضغط على إسرائيل ليترك الفلسطينيون يواجهون مصيرهم لوحدهم. ولا تجدي عبارات التنديد والشجب من الدول لاسترداد الحقوق الفلسطينية، أو وضع حد للاحتلال دون ضغط حقيقي يمارسه المجتمع الدولي، لكنه يظل غائباً حتى اليوم، هذا الأمر يولد لدى إسرائيل شعوراً بالإفلات من العقاب، وأنها فوق القانون، فهي قد تتعرض للانتقاد من حين لآخر إلا أنها أبداً لا تعاقب من قبل المجتمع الدولي، بحيث تظل الإدانة شفهية دون أن تتحول إلى إجراءات ملموسة. وفي هذا السياق يمكن للرئيس الفلسطيني، كشف هذا الجانب وتوظيفه بالموافقة على الدخول في مفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية دون اشتراط وقف الاستيطان، حينها ستفقد الدولة العبرية مبرراتها وسينكشف وجهها الحقيقي الرافض للسلام، والممعن في الاحتلال أمام المجتمع الدولي.