توماس فريدمان، الصحفي الشهير بجريدة «نيويورك تايمز»، هو من أكثر الصحفيين الأجانب المترددين على مصر والمنطقة العربية، وذلك منذ أن كان مراسلاً في بيروت، وأنتج كتابه المهم «بين بيروت والقدس»، والذي كان محوره الرئيسي الصراع العربي الإسرائيلي. وبالرغم من انتقاله من المنطقة العربية واهتمامه بتحليل ظاهرة العولمة وتأليف عدة كتب حول هذه الظاهرة الكونية، إلا أن منطقة الشرق الأوسط لا تزال في أولوية اهتماماته كتابةً ومتابعةً، وهو لا يكاد يراك في أحد المؤتمرات العالمية التي تتعلق على نحو مباشر أو غير مباشر بأوضاع المنطقة وتطوراتها، حتى يبدأ يمطرك بسيل من الأسئلة عن سير الأحداث والوقائع، وحتى عن بعض الأشخاص الذين تعكس نوعيتهم درجة إلمامه بأحوال المنطقة ولو عن بُعد. كان من الطبيعي أن يهتم فريدمان بتطورات «الربيع العربي»، وخاصة في مصر التي زارها كثيراً، والتي يعتبرها المحك لتحديد مصير هذه الظاهرة الشعبية السياسية الجديدة، حتى وإن كانت شرارتها الأولى قد جاءت من تونس. وأحدث تجليات فريدمان في هذا الصدد هي تساؤله التالي: هل سيتطور نموذج مصري واضح، وهل سيكون هذا النموذج أقرب إلى النموذج الهندي أم إلى النموذج الباكستاني؟ والمقصود هنا بالطبع أن الهند تمثل أكبر ديمقراطية ليبرالية في العالم من حيث الحجم السكاني، بما في ذلك المنافسة بين الأحزاب السياسية وتداول السلطة، أضف إلى ذلك نموها الاقتصادي المتواصل عاماً بعد عام. بينما يمثل النموذج الباكستاني في فكر فريدمان مراوحة المكان، بل التقهقر إلى الخلف، مع زيادة الفساد وسيطرة العسكر وصولاً إلى براثن الدولة الفاشلة. ولم يذكر فريدمان في مقارنته الإيجابية مع الهند والسلبية مع باكستان، انتشار الفقر في الهند بعد أعوام طويلة من التقدم الاقتصادي الذي حققته، أو الطبقية المترسخة في بنية المجتمع، بل انقساماته الحادة بين طبقات مغلقة. وقد تكون مصر بسبب حجمها السكاني على الأقل، هي «هند» المنطقة العربية. وعلى الرغم من أن الكثيرين من المصريين معجبون بالتقدم الاقتصادي الحديث في الهند، إلا أن هناك تردداً بل مقاومة لأن تقوم مصر بنسخ هذا النموذج، حتى ولو كان أسلوبه السياسي في إرساء النظام الديمقراطي والسيطرة على العسكر، قد نجح منذ نيلها الاستقلال عن بريطانيا في سنة 1947، أى منذ ما يزيد عن 65 عاماً، وهو إنجاز مهم للغاية. كما يحسب للهند كونها حاولت بناء نهضة علمية حقيقية على أكتاف الكوادر من أبنائها المنتشرين في الخارج. لكن هذا التردد المصري المشار إليه، إنما يأتي جرّاء ذلك التمييز العرقي والطبقي الحاد الذي لا يزال مسيطراً حتى الآن في الكثير من مناطق الهند، وكذلك وضع المرأة فيها، حيث سمحت بعض التقاليد القاسية بدفن الأرملة مع زوجها. وتتفق معظم النخبة في مصر على أن النموذج الباكستاني في مجمله هو الأسوأ بالنسبة لمصر، سواء من ناحية سيطرة العسكر أو فيما يخص تفاقم مظاهر فشل الدولة. ولذلك عندما تبحث النخبة المثقفة المصرية عن نموذج للمستقبل خارج المنطقة العربية، فإنها تنظر إلى ثلاثة نماذج أخرى: النموذج الماليزي، والنموذج الإيراني، ثم النموذج التركي، فماذا تعني هذه النماذج الثلاثة، وما هي خصائصها؟ لا يعرف المصريون الكثير عن ماليزيا، بالرغم من أنهم سمعوا كثيراً عن مهاتير محمد، ولكن القلة من المصريين الذين زاروا هذا البلد يتحدثون عن مظاهر التقدم المتسارع في جو من الإسلام الواضح، مع نظافة وأدب في الشوارع. وبالرغم من أنهم سمعوا أيضاً عن الانقسامات العرقية الموجودة في ماليزيا، إلا أنهم أيضاً يعجبون بالتسامح النسبي في التعامل مع تلك الانقسامات. أما بالنسبة للنموذج الإيراني، فربما لا تزال له شعبية عند البعض، خاصة المؤمنين بالنهج الثوري. وكما هو معروف فإن إيران الخميني، قد مثلت منذ السبعينيات نموذجاً لنجاح الإسلام السياسي في الوصول إلى الحكم والسيطرة على السلطة، وهو نموذج وصل عمره الآن إلى ما يقرب من 35 عاماً، وقد واجهته الكثير من التحديات: من الحرب مع العراق إلى الطموح النووي، ثم العقوبات الدولية المتعاظمة حالياً. وربما لولا التأييد الإيراني لنظام الأسد لما بقي هذا النظام حتى الآن. لكن التردد تجاه «النموذج الإيراني» يأتي من تزمته الديني، ثم توجهه السلطوي، وبالطبع صفته الشيعية واستناده إلى مبدأ ولاية الفقيه. وأخيراً هناك النموذج التركي الذي يتميز بتمثيله النمط السني، كما يُغري الكثيرين بسبب نجاحه المعلن في التوفيق بين ليبرالية غربية تقوم على منافسة حزبية وتداول للسلطة وبين المحافظة على الهوية الإسلامية للمجتمع. كما أنه نجح -ليس فقط في إحراز تقدم اقتصادي- ولكن أيضاً كبح جماح سطوة المؤسسة العسكرية. ويحتاج كل نموذج من هذه النماذج الثلاثة إلى تفصيل أكثر حتى تتبين مزاياه من مثالبه، لكن البند الأهم هو عدم قبول نسخ أي نموذج كما هو حرفياً، لأن لكل بلد ظروفه الوطنية والإقليمية والدولية، لذلك يجب الاستلهام فقط من الروح العامة لتجارب الآخرين. ويتضح من تجربة «الربيع العربي» أن عناصر الإسلام السياسي أصبحت جزءاً من عملية التحول السياسي.