خلصنا في مقالنا في الأسبوع الماضي في «الاتحاد» وعنوانه: «نحو نظام أمني خليجي فعّال»، إلى أن منطقة الخليج العربي قد عانت لعقود من عدم الاستقرار بسبب غياب نظام أمني إقليمي فعال يوازن القوى الموجودة في المنطقة التي تسعى دولها الكبرى للهيمنة، وهذا ما كانت عليه مخططات ومشاريع صدّام التي ترجمها بغزو وحرب ثمانية أعوام مع إيران، وتالياً غزوه واحتلاله لدولة الكويت. وهذا ما يظهر اليوم من خلال مشروع إيران وسياساتها وتدخلها وتمددها على حساب أمن ومصالح الدول العربية في منطقة الخليج العربي، وفي دول عربية أخرى من الخليج إلى المحيط. ولذلك كما أوضحنا في المقال السابق، في ضوء تلك المعطيات لا يمكن من المنظور الاستراتيجي الوصول إلى نظام أمني خليجي مثالي يشمل جميع الدول الأعضاء المطلة على الخليج العربي بضفتيه العربية والفارسية، أو بمشاركة العراق وإيران في الترتيبات الأمنية الجماعية. وذلك بسبب التباين والخلافات والمشاريع والأجندات المتضاربة. لقد بقيت منطقة الخليج العربي لقرون مسرحاً لصراع القوى من إمبراطوريات محلية وغربية، وتحول ذلك الصراع إلى صراع قوى محلية وحرب إرادات. وقد شهدنا ذلك في الصراع الإقليمي بين القوى الفاعلة والكبيرة من إقليمية ودولية مؤخراً. كما لعبت القوى الكبرى خلال الحرب العراقية الإيرانية دوراً في أمن منطقة الخليج العربي، ولكن دون تحقيق الأمن بل إدارته فقط من خلال فرض احتواء مزدوج على إيران، وقبله مبدأ كارتر بعد الاحتلال السوفييتي لأفغانستان عام 1979 وإعلان منطقة الخليج العربي منطقة حيوية ضمن النفوذ والمصالح الأميركية. وذهب كارتر خلال عام 1980 في تحذيره إلى تأكيد استعداد الولايات المتحدة لاستخدام القوة لحماية مصالحها في المنطقة. كما أن بوش الأب قاد تحالفاً دولياً بعد ذلك بعشرة أعوام لتحرير دولة الكويت من الاحتلال العراقي، الذي أخل بالأمن والاستقرار في المنطقة الحيوية وتجاوز خطوطاً استراتيجية حمراء. وتكثف الوجود العسكري الأميركي بعد تحرير دولة الكويت بتوقيع اتفاقيات أمنية مع الدول الكبرى بقيادة الولايات المتحدة. وقاد التدخل الأميركي لاحقاً واشنطن لشن حرب على نظام صدام في مطلع الألفية الثالثة، واحتلال العراق وإسقاط النظام البعثي، ما زاد من الخلل في توازن القوى الهش أصلًا في منطقة الخليج العربي ليصب الأمر في مصلحة إيران، التي شجعها ذلك على التدخل وتهديد دول المنطقة والمضي في مشروعها مستفيدة من الفراغ الاستراتيجي الذي لم يتردد نجاد في التوعد بملئه لمصلحة الجار الفارسي ولو على حساب مصالحنا وأمننا المشترك. ولذلك تبرز معضلة حقيقية لدول مجلس التعاون الخليجي التي عوّلت طويلًا على الأمن المستورد، والتي لا يمكنها أن تدخل في ترتيبات أمنية تشمل العراق وإيران للأسباب التي قدمت ولغياب الثقة. ولذلك تجد دول مجلس التعاون نفسها في وضع أمني ضاغط. فمن جهة لا يمكنها أن تصل إلى ترتيبات أمنية راسخة تشمل جميع الدول المطلة على الخليج العربي، ومن جهة أخرى لا يمكن لترتيبات أمنية خليجية أن تعتمد اعتماداً كلياً على الأمن المستورد دون تطوير قدرات أمنية وعسكرية إلى الأبد، أو التعويل طويلًا على الحماية الخارجية في ظل تغير طبيعة القوى واتجاه أميركا والغرب شرقاً. ولهذا، لا يمكن لدول الخليج بمفردها أن تشكل نظاماً أمنياً يصمد ويواجه التهديدات والتحديات الإقليمية المتشعبة. وهناك معلومات بدأت ترشح من مراكز دراسات علمية واستراتيجية في الولايات المتحدة خاصة وفي الغرب عامة عن تحولات جذرية قد تطرأ خلال العقد الحالي تتمثل في تطوير تقنيات وتكنولوجيات حديثة تمكن من استغلال الأحفورات تحت التربة واستغلالها كمصادر للطاقة بديلة عن النفط والغاز، لا بل يذهب المتفائلون إلى أن بعض الدول في الغرب والشرق مثل الولايات المتحدة المستهلك الأول للطاقة في العالم والصين المستهلك الثاني والمتوقع أن تصبح المستهلك الأول على المستوى الدولي، قد تصبحان أكبر مصدرين للطاقة. فهل هذا ممكن؟ وإذا ما تحقق ذلك فما هي الاستعدادات والاستراتيجية التي ستتبعها دول مجلس التعاون، لأن تلك الدراسات إن صحت فإن أهمية ومحورية دول النفط في منطقة الخليج، والدول التي تعتمد على تصدير النفط والغاز عموماً، ستتراجع على جميع النواحي بما في ذلك أهميتها الاستراتيجية وحتى مصادر دخلها. لا بل إن بعض الدراسات تشير إلى أنه ليس أمام الدول النفطية سوى فرض الضرائب على مواطنيها لتعويض تراجع دخلها، مما سيكون له تأثير على شتى المستويات بما فيها الشأن الداخلي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي. فهل لدينا دراسات للتعامل مع هذه التحولات وانعكاساتها وارتداداتها؟ وهل ستسرّع هذه المعطيات والتحديات فكرة الاتحاد الخليجي؟ لذلك لم يعد ترفاً ممكناً، في ضوء صعوبة دمج العراق وإيران في منظومة أمن خليجي شامل، البقاء في مراوحة التعاون والاعتماد على الأمن المستورد لقوى عظمى متراجعة، وتعاني مشاكل مالية، وتتجه شرقاً، وتطور تكنولوجيا ثورية جديدة لاستغلال الأحفورات الطبيعية Shales ما سيقود تدريجياً لتراجع أهمية واستراتيجية الطاقة في منطقة الخليج العربي. ولذلك فقد بات ملحاً لدول مجلس التعاون التخلص من ترددها وعدم حسمها. وعليها أن تستغل السنوات القادمة لتنخرط في عولمة الأمن الخليجي، واحتواء العراق وإيران، وتفعيل العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة التي تحولت في العام الماضي من علاقة حلفاء إلى علاقة شركاء استراتيجيين عن طريق المنتدى الاستراتيجي. ولكن الأهم يكمن في تفعيل مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز بالانتقال من مرحلة مراوحة التعاون، التي بقيت نهج المجلس لأكثر من ثلاثة عقود دون أن تحقق الأمن والاستقرار والتوازن المطلوب. وبالتالي بات لازماً الانتقال إلى اتحاد خليجي فعال يستجيب لجميع تلك التحديات الماثلة ويحول دول المجلس إلى لاعب استراتيجي قوي، وتتم من خلاله ترجمة القوة المالية والاقتصادية وقوة صناديق السيادة والطاقة إلى قوة جيو-استراتيجية عسكرية تردع وتمنع بتنوع مصادر الأمن والقوة... فهل يمكننا تحقيق ذلك؟ أم سنبقى نُفوّت الفرص؟!