يسير الملف السوري إلى تقاطُع شديد التأزم من جهة، والبدء في تحول عسكري وسياسي. فالمعارضة تجتمع بتركيا للنظر في تشكيل حكومة انتقالية طال انتظارها، والنظام الأسدي يسير منذ الخطاب الأخير باتجاه الحسم العسكري! تقول المعارضة السورية بكل فصائلها إنه لم يعد هناك أمل في حل تفاوضي ما دام الأسد موجوداً، ولذا لابد من تشكيل حكومة مؤقتة تتساوق مع تطورات عسكرية على الأرض تؤدي إلى اندحار بقايا قواته. بيد أن المعارضين قالوا قبل الاجتماع وخلاله إن الائتلاف لم يتلق الدعم الموعود به منذ ثلاثة أشهُر، لا من ناحية الإمكانيات المادية ولا من الجانب العسكري. وما حصل شيء بارز غير بعض التحسُّن الذي طرأ على مسائل مساعدة النازحين السوريين في دول الجوار. أما النظام فيذهب على الأرض كما يقول باتجاه طرْد قوات المعارضة من جوار دمشق، مع توجيه ضربات مؤثّرة إليها في سائر المناطق السورية. وتنتشر خلال ذلك الحكايات في سوريا والعراق ولبنان عن قدرات النظام على الحسم في أمد لن يطول. وفي هذا الصدد فإن الإيرانيين كانوا ولا يزالون أنشَط من نظام الأسد لهذه الجهة. وقبل أيام عندما زار رئيس وزراء سوريا طهران، أعلنت الصحف والفضائيات عن تقديم إيران مليار دولار مجدداً للنظام، كما أعلن مرشد الثورة أن طهران باقية مع الأسد حتى إنهاء «المؤامرة» التي اصطنعتها الولايات المتحدة وإسرائيل ودخلت فيها دول عربية وإقليمية! والواقع أن الشهرين الماضيين شهدا تباطؤاً في تقدم الثوار على الأرض، باستثناء مسألة المطارات في شمال سوريا. وقد شاع أن الدعم الخارجي للثوار تراجع بدلا من أن يتعاظم. وترافق ذلك مع أخبار عن إعلان الأميركيين «جبهة النصرة» كتنظيم إرهابي! وفي الوقت نفسه سلَّموا للروسي يساعده الإبراهيمي قيادة المفاوضات من أجل الحل السياسي. وقد تحرك الإبراهيمي بالفعل في كل اتجاه، مترافقاً مع تصريحات روسية بأن الأسد لا يمكن الاستغناء عنه، بينما أعلن الإبراهيمي عن خيبته من خطاب الأسد، دون أن يذهب إلى قطع المفاوضات معه. إنما الجديد هو صمْتُ الروسي أو خفوتُ تصريحاته بعد الاجتماع الأخير مع الأميركي والإبراهيمي، وارتفاع الصوت الإيراني في نُصرة الأسد والاستمرار في دعمه. وكان الأسد في خطابه قد شكر الروسي والصيني كأنما كان يودّعهما، فتزايدت الشائعات أن الروسي الذي كان يريد الأسد جزءاً من الحلّ ما عاد يعتبره كذلك. وقد عبر الإبراهيمي عما يشبه ذلك عندما تجاهل الأسد، واقترح إنشاء حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة، ما وافق عليها الأسد ولا الثوار. وهذا يعني أن الطرفين: الأسد ومعارضيه، خائبون من الإبراهيمي، وأن الروسي والأميركي يتجهان إلى إخراج حل لا يحضر فيه الأسد، إنما ينبغي أن لا يتجلى في انتصار عسكري على الأرض لخصومه. وربما كان تخفيف الدعم للثوار جزءاً من هذا التوافق المتدرج بعد أن تحقق توازن أو تكافؤ على الأرض تجرأ حتى فاروق الشرع للحديث عنه في حديث نادر له. يستطيع الأميركيون والغربيون التأثير في المشهد السوري بطريقتين: في مجلس الأمن، وفي دعم الثوار على الأرض. ويستطيع الروسي التأثير بطريقة واحدة وهي دوره في مجلس الأمن. أما السلاح الثقيل الذي يزوِّد الأسدَ به، فقد حل محله في التزويد الإيرانيون، وفي أي حال فإن جيش الأسد لا يزال أفضل عدةً وانتظاماً من كتائب الثوار و«الجيش الحر». وهكذا فإن الضغط الروسي لهذه الناحية ما كان أو ما عاد ثقيل الوطأة في المشهد. ولا يستطيع الروس باعتبارهم جزءاً من مجلس الأمن ومن النظام الدولي، أن يصمُّوا آذانهم وعيونَهم عن الكارثة السورية، فيتحول استشراسهم إلى التسبب في انسداد للوضع الإقليمي والدولي. لذا فالراجح أنهم فاوضوا في الشهور الأخيرة على مصالحهم في المنطقة، وتوصلوا إلى وضع مُرض أو شبه مُرض. ولهذين الاعتبارين: المشاركة في النظام الدولي، وصَون المصالح، يتجهون الآن إلى تعاوُن في الإخراج النهائي للحل في سوريا، ظهرت بعضُ معالمه، ولم تظهر معالمه الأخرى بعد. ما هي الصعوبات الباقية؟ أهم الصعوبات بالطبع الموقف الإيراني، والتصرفات الإيرانية. فإيران تنظر إلى محورها في العراق وسوريا ولبنان، نظرةً واحدةً. وتعتبر أن انهيار إحدى الحلقات، هو انهيار للمحور كله، وفشل للسياسات الخارجية الاستراتيجية في العقد الماضي، فيما بين غزة وبغداد. وعندها مفاوضات صعبة على النووي وعلى الحصار، وسيؤثر انهيار النظام السوري عليها أيضاً لهذه الجهة. وهي تريد من جهة ثانيةٍ صفقةً جديدةً مع الأميركيين بشروط تلائمها، وتريد أيضا ملاقات أخرى بالسعودية ودول الخليج. والعقبة في طريق ذلك كله ما تعتقده من نجاحات حققتها في العقد الماضي، وهي لا تريد التنازل عنها. إنما من جهة ثانية أو ثالثة، ما كان سارياً وجارياً منذ عام 2008، ما عاد سارياً الآن. فوقتها كان المحور الإيراني مستقراً، وما كان الحصار قد تكاثف عليها. ولذا تبدو لدى ساستها وأمنييها هذه التأرجحات التي تميل غالباً إلى التطرف بما لا يسمح ظاهراً بالتفاوض على صفقة بشأنها لا مع الأميركيين ولا مع الخليجيين. ثم إن علاقاتها بالروس ليست على ذلك القدر من الوثوق، بل يمكن القول إن العلاقات الإيرانية مع تركيا لا تزال أفضل من العلاقات مع روسيا، رغم التوترات الأخيرة بشأن سوريا، وبشأن الملف العراقي! ولنعد إلى الملف السوري. تتجه الأمور إلى تعاون بين الأميركي والروسي والخليجي بشأن سوريا. ولأن السياسة الإيرانية بطيئة في تحولاتها بسبب العوامل سالفة الذكر، وبسبب الوضع الداخلي الإيراني (الصراع بين تيارات المحافظين حول خامنئي)؛ فإن إيران ليست جاهزةً للتعاون فضلاً عن الشراكة. ولذا فالمتوقع أن يتنامى دعم الوسائل الدفاعية للثوار، والذي كان مطلوباً حصوله منذ ستة أشهر على الأقل. إذ إن ذلك متعلق بمكافحة الطيران ومكافحة الدروع وحسْب. وهذه أمور يعرف العسكريون أنه يمكن التحكم بها حتى لا تقع في أيدي «الإرهابيين»، وتحقق فعاليةً بارزةً على الأرض. وتقوية «الجيش الحر» هذه تحدث آثاراً سريعة، ليس من بينها دفع الأسد للتفاوض، بل دفع قطاعات الجيش الباقية لذلك. فالأسد صار خارج الحسبان. وهذا الضغط البارز من جانب الثوار، ومن جانب الروس، قد يدفع الإيرانيين لإعادة النظر، أقله لجهة الخوف على بقية أجزاء ومفاصل المحور، وتعاظم الخسائر التي لا يمكن تعويضها ولو بالاستمرار في خوض المعركة مع النظام الأسدي، والأمل في أن تجتذب مصر الإخوانية إلى صفها! لقد انتهى أمران: انتظار تراجع الأسد باتجاه التفاوض على الرحيل. وانتظار اطمئنان الروس إلى شراكتهم في الحل ومصالحهم في المنطقة. وهكذا يحدث الآن هذا التحول البطيء والمتسارع في الوقت نفسه، والذي كلف السوريين عشرات الألوف من القتلى، ومئات الألوف من المعتقلين، وملايين من النازحين والمهجرين. هل يصح تسمية ما يحصل وسيحصل حلا ً سياسياً كما يُصر الجميع؟ نعم، ما دامت فيه أو من ضمنه قوة سلام عربية أو دولية. والله المستعان.