ومنذ فجر النهضة العربية في القرنين الماضيين كان قد نشأ صراع الهويات، الهوية الإصلاحية التي يمثلها الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وبن باديس، والهوية الليبرالية التي يمثلها الطهطاوي وخير الدين التونسي، وطه حسين والعقاد، ومحمد حسين هيكل، وقاسم أمين في كتابيه عن المرأة «المرأة الجديدة» و«تحرير المرأة» وخالد محمد خالد في كتابه الأول «من هنا نبدأ» وبعض كتبه التالية. والهوية العلمية العلمانية التي يمثلها شبلي شميل وفرح أنطون ونيقولا حداد وسلامة موسى وإسماعيل مظهر قبل أن يتحول في آخر حياته إلى الهوية الإسلامية في «الإسلام أبدا»، وما زالت هذه الهويات الثلاث في صراع. تتقارب وتتباعد فيما بينها. تختلف في نقطة البداية، الدين للتيار الإصلاحي، والدولة للتيار العلماني، والعلم للتيار العلمي، ولكن النهاية تتقارب في كبوة كل تيار، والاقتراب من السلفية، السلفية الدينية، والسلفية الليبرالية في الفكر، والسلفية العلمية في برامج العلم والإيمان. أصبحت السلفية الماضوية طابع الفكر، الرجوع إلى الوراء لعجز عن مواجهة الواقع. الليبرالية سلفية، والعلمانية سلفية، والإصلاحية سلفية. وتقوي ذلك قيمة السلف في الثقافة الشعبية، بالرغم من وجود تيار آخر في الثقافة الشعبية يعطي الأولوية للتقدم على الماضي. وجوهر النبوة التقدم في مسار طويل من أول الأنبياء حتى آخر الأنبياء. وبرزت الهوية العلمية العلمانية تبنياً للنموذج العلمي الطبيعي الغربي وأهم نظرية فيه في القرن التاسع عشر وهي نظرية التطور في العلوم الطبيعية، والعلمانية أي فصل الدين عن الدولة في العلوم الإنسانية. بدأها شبلي شميل (1850- 1917)، وفرح أنطون (1874- 1922)، وسلامة موسى (1887- 1958)، وإسماعيل مظهر (1891- 1962)، وزكي نجيب محمود (1905- 1993). فالعلم الطبيعي يستند إلى منهج تجريبي وليس إلى أحكام مسبقة. فإذا ما تحققت أحد افتراضاته أصبحت قانوناً. يبدأ بملاحظات أولية تعتمد على الحس وليس على الغيب. ومع ذلك ظلت الهوية العلمية خارجية لأنها تستند على أساس ديني غيبي أسطوري مغروز في الثقافة الشعبية. ولم تقم بعد محاولة جادة لنقدها وتطهيرها من أجل بناء ثقافة علمية بديلة تقوم على العلمية كما كان الحال في علم أصول الفقه في القياس الشرعي، الأصل الرابع للتشريع. إذ غلب الأصل على الفرع في الثقافة الشعبية المغروزة. وأخذ الفرع حكم الأصل بلا تعليل. ما زال العلم وافداً من الغرب وليس نابعاً من الذات. بل إن بعض العلماء يهاجرون إلى الغرب بلاد العلم، حتى وصل مقدار العلماء الأفارقة والآسيويين إلى حوالي 30 في المئة من مجموع العلماء الغربيين الذين يساهمون في تقدم العلم وبناء العمران. وتنشأ ظاهرة «التغريب» بين المثقفين كرد فعل على التخلي عن الهوية الأصلية. ويعني التغريب أخذ الغرب كنموذج في الفكر والحياة اليومية في الثقافة واللغة واللباس والمنظور. ويصبح نموذج «الخواجة» أحد نماذج التحديث في الفكر العربي المعاصر. فالغرب مصدر العلم، ونموذج الحداثة. وكان كذلك منذ فجر النهضة العربية الحديثة. وكان وراء التحديث في عصر إسماعيل حتى «مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين. فأنشأ رد فعل عليه في التمسك بالهوية. وظهر نموذج التواصل مع الماضي بدلاً من الانقطاع عنه كما فعل الغرب. وكتب توفيق الحكيم «عصفور من الشرق». وكتب محمد الغزالي «ظلام من الغرب». وأراد علي عبدالرازق فصل الدين عن الدولة أسوة بالغرب في «الإسلام وأصول الحكم» وتقليداً للثورة الكمالية في تركيا. ورد عليه محمد رشيد رضا في «الخلافة أو الإمامة العظمى» في نفس العام لإحياء الخلافة الإسلامية بعد سقوطها عام 1924 بعد الثورة الكمالية في تركيا عام 1923. وما زال التغريب غواية للنخبة إحساساً بالنقص أمام الآخر، ورغبة في الوصول إلى مستواه، لغة وثقافة وعلماً وتحضراً. ومهما نشأت محاولات لعلم «الاستغراب» لتحويل الغرب إلى موضوع للعلم من أجل التحرر منه إلا أن التغريب ما زال مستمراً، ويظهر أثره في الحياة العامة. ويحدث رد فعله في الهوية. ثم نشأت الهوية الليبرالية جمعاً بين القديم والجديد عند الطهطاوي في «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية»، وخير الدين التونسي في «أقوم المسالك». يقرأ الهوية العربية الإسلامية من منظور التحديث الغربي خاصة فلسفة التنوير، فولتير ومونتسكيو وروسو، وقراءة فلسفة التنوير من منظور إسلامي. فمونتسكيو في «روح الشرائع» هو ابن خلدون الغرب، وابن خلدون في المقدمة هو مونتسكيو الشرق. وعلم العمران عند ابن خلدون هو ما سماه الغرب «الأندوستريا» Industrie وهو ما يترجم الآن بالصناعة، لما كانت الصناعة روح العمران. «فليكن هذا الوطن مكاناً لسعادتنا أجمعين. نبنيه بالحرية والفكر والمصنع». ووضع الطهطاوي الهوية داخل الموقف الحضاري الثلاثي: تأصيلها في الموروث القديم في «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز»، وانفتاحها على التراث الغربي في «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وتنظيره المباشر للواقع في «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» لبناء الدولة المصرية الحديثة. واستمر في نفس التيار علي مبارك في «الخطط التوفيقية» لاستكمال بناء الدولة التي بدأها محمد علي. وبلغت الذروة حول ثورة عام 1919، ودستور عام 1923 وإنشاء الجامعة المصرية عام 1925. إلا أن الثورات العربية الأخيرة بقيادة الضباط الأحرار في الخمسينيات والستينيات قضت عليها باسم الدولة الوطنية. والتحرر الوطني، وبناء الدولة، وتأسيس القطاع العام، والتخطيط مما يحتاج إلى سلطة مركزية ممثلة في الحزب والجيش والدولة. ثم تحولت الدولة الوطنية إلى دولة قاهرة تجد أحلافها وأنصارها في الخارج، أميركا وإسرائيل. ثم جاءت التحولات العربية الأخيرة لتقضي عليها. وما زال النضال مستمراً بين الثورة الشعبية والاستبداد العسكري مع الحذر من الاستبداد الديني البديل. وأخذت الهوية اتجاهاً يربط بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والتجديد بناء على حديث المجددين. وفسرت الهوية الإسلامية في ظرف القرن التاسع عشر الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل. وأول من فكر في «لاهوت الأرض» لإعادة بناء اللاهوت القديم من أجل تحرير الأرض. كما فكر في الإسلام والاشتراكية. وفكر في وحدة الأمة، والتوحيد بين الدين والقومية. وفجرت تعاليمه الثورة العرابية. وخشي محمد عبده من هذه الثورة فآثر التدريج والبداية بالتعليم وتغيير الأخلاق. فكان وراء إنشاء كلية دار العلوم ثم الجامعة المصرية، فتراجعت الحركة إلى الوراء كحلقة ماضوية على يد محمد عبده بعد فشل العرابيين. ثم صارت سلفية مرة أخرى على يد تلميذه رشيد رضا , فانتهت التيارات الثلاثة إلى السلفية. وهو ما ظهر في حضورها في الانتخابات الأخيرة.