بين فينة وأخرى تثور في الغرب مسألة المقارنة بين الشيوعية والنازية. وكان إرنْست نولته، وهو مؤرّخ ألماني كبير، ورجعي كبير أيضاً، أثار في أواخر الثمانينيات ما عُرف في ألمانيا بـ«نزاع المؤرّخين» بسبب تأويلاته الخلافية، والمشتطّة، للنازية و«الحل النهائي» للمسألة اليهودية. هكذا اكتسب «نولته» سمعة سيئة تبعاً لأطروحته التي تفيد أنّ غزو هتلر للاتحاد السوفييتي في عام 1941 كان عملاً «دفاعياً» ضدّ «مخاطر» الشيوعية واليهودية العالمية، وأنّ الهولوكوست، أو «ما يُسمّى باستئصال اليهود»، بحسب تعبيره المشكّك، لم يكن غير ردّة فعل على تطرّف الحرب الطبقية السوفييتية، لا بل كان تيمّناً بها وتقليداً لها. لقد اتُّهم «نولته» باعتماد استراتيجية تأريخية تنهض على «التَـتْـفيه المقارن»، بحيث «يُشرح» الهولوكوست، أي يُعرض كمادّة معرفية، وهذا من ضمن نسبَنَة (جعلها نسبية) الجرائم النازية، بل أنسنَتها، عبر مجاورتها مع الارتكابات السوفييتية وقياسها عليها. ولم تخفف حدّةُ الموقف النقدي لـ«نولته» حدّةَ مجادلته الزاعمة أنه لم يحاول تبرير الهولوكوست وباقي الارتكابات النازية، بل سعى فحسب إلى الاقتصار على «فهمها» واختبارها على جرائم أخرى حصلت في القرن العشرين، وبالتالي وقف «أبْـلَسة الرايخ الثالث»، وترك «الماضي يمضي». وكان ألمان كثيرون، من أبرزهم الفيلسوف يورغن هابرماس، قد بكّروا في التصدّي لمثل هذه الميول الفكرية المتسامحة مع النازية والتي تقدّم لها أعذاراً يسعى أصحابها إلى التطبيع معها، كما أشار كثيرون إلى دور الحرب الباردة وحاجة الغرب إلى مقارعة الاتحاد السوفييتي في إحداث مثل هذا التطبيع. على أنّ المقارنة بين النازية والشيوعية، بما فيها الستالينية، أي النسخة الأكثر فظاظة منها، ليست بالأمر الجديد، ولا بالشيء الألماني حصراً. فقد دأبت مراكز البحث الأميركية، إبّان الحرب الباردة، على إجرائها، تماماً كما قيض لمفهوم «التوتاليتارية» أن يحتوي الاثنتين احتواء متكافئاً. وفي فرنسا التسعينيات عزّز المقارنة بين التوتاليتاريتين مثقفون انتقلوا، على جناح حركة مايو عام 1968، من يسار ماركسي إلى ليبرالية متطرّفة كان الأميركيون قد سبقوا إلى تسميتها «محافظة جديدة». وقد ركز هؤلاء الفرنسيون على عدد ضحايا الشيوعية على امتداد القرن العشرين، مستنتجين أن عقيدة كارل ماركس وورثته لا تقل إجراماً وحضاً على القتل وعبثاً بالحياة الإنسانية عن عقيدة أدولف هتلر. وهذا ما ينطوي على صواب كثير، وإن كان ينطوي، بالقدر نفسه، على خطأ كثير أيضاً. فالنازية والشيوعية تستسهلان معاً الاجتثاث والتصفية في سبيل القضية، العرقية- القومية مرة والطبقية مرة أخرى. وهما، كتوتاليتاريّتين، من طبيعة جهازية، نخبوية المصدر أو طليعيته، ولهما موقف نقضي وسلبي من الديمقراطية والإرادة الشعبية، كما أنهما تعملان على تسييس مستويات الوجود الاجتماعي كافة بلا تمييز. وهذا فضلاً عن عبادتهما الدولة التي تجسّدها شخصية الزعيم المعبود الذي يتربع في قمّتها. وأبعد من ذلك أنهما علمويّتان، تطمحان إلى هندسة الوجود الاجتماعي من صفر، وبهذا فإنهما تعكسان، بعقلية الزمن الصناعي وبقوالبه، وعياً دينيّاً وتأسيسياً للكون والبشر. بيد أنّ الماركسية، من ناحية أخرى، هي، في طابعها الكلياني، ابنة التنوير، فيما النازية إحدى أبرز ثمار الردّ على التنوير والحداثة. وعلى ذلك تترتب حقيقة أنّ التوحّش الشيوعي نتاج العقلنة الصارمة والمغالية، مقابل التوحّش النازي بوصفه التفعيل الهيولي والصناعي للاعقلانية الجامحة. ومن هنا نرى أنّ الشيوعيين، أقله على المستوى النظري، هم من يقودهم استعجال التاريخ والمساواة إلى الجريمة المعمّمة، بينما يشكّل الارتداد عن التاريخ، والارتداد فيه، لصالح تراتُب جوهراني، طريق النازية إلى تلك الجريمة. وهنا تختلف «أممية» الشيوعيّين، المسكونة بجرعة من الطوباوية لم تحلْ دون استخدامها الجهازي على يد الدولة السوفييتية، عن عِرقية النازيّين المبوّبة للبشر. وغني عن القول إنّ سيولة مفهوم «الطبقة» كمعطى قابل للتدخّل والتعديل الاجتماعي لا تربطه إلا القطيعة مع مفهوم «العِرق» كمعطى خرافي مغلق ونهائي. وحتى في مصالحة المقدّمة النظرية اللاسياسية لكلّ من الإيديولوجيّتين مع السياسة، نقع على فوارق في الاحتمالات والمسارات المفتوحة. صحيح أنّ تكوين النظام الشيوعي يقلل كثيراً من أهمية الفوارق النظرية، وهو أيضاً ما تفعله الأرقام الفلكية لضحايا الغولاغ الستاليني، إذ معها ينخفض إلى الحدّ الأدنى وزن الأسباب النظرية الكامنة وراء قتل الضحايا. لكنّ ذلك لا يحجب بالكامل الأساس الفكري لهذا الافتراق والذي يرسم الشيوعية انحرافاً طرأ على مسارات التقدّم، مثلما يرسم النازية حرباً، من الألف إلى الياء، على تلك المسارات نفسها. والحال أنّ أعداد القتلى هنا، والمقارنة بينها، ليست حجّة بالغة الإقناع لسبب آخر: ذاك أنّ الذين قتلتهم النازية في ألمانيا وأوروبا الوسطى والشرقية قتلتهم النازية حصراً. وهي للهدف هذا امتلكت مقدّمات تبريرية صريحة لا ينقصها الوضوح والإقدام. أمّا الذين قضوا على أيدي أنظمة تقول بماركسيّة ما (صين ماو، كمبوديا بول بوت، إثيوبيا مانغيستو...) فأودى بهم خليط من العوامل لا يحجبها تبني أولئك الديكتاتوريّين للماركسية. لقد نجم ذاك، لاسيّما مع تحوّل الثورات عن أوروبا إلى بلدان «الشرق»، عن تضافر اجتمعت فيه مسائل القومية والإثنية والدين والحروب الأهلية ممّا يُفترَض أنه لا يدخل في نطاق اشتغال الماركسية النظرية. ثمّ إنّ اعتناق هؤلاء للأخيرة هو ما اختلط إغراؤه الفكري الضئيل برغبة الحصول على الدعم السوفييتي أو الصيني لاحقاً. ومن دون أن يكون المقصود إيراد أسباب تخفيفية للشيوعية، فإنّ هذا جميعاً يردّنا إلى خطر استخدام المقارنة للتخفيف من استثنائية النازية واستثنائية أفعالها وارتكاباتها. ألم تكن تحالفات الحرب العالمية الثانية دليلاً عملياً ناصعاً على تبويب المخاطر المحيقة بالجنس البشري؟ أولم يكن سقوط الشيوعية في روسيا برهاناً على أنّ التخلّص منها لا يتطلّب بالضرورة حرباً عالمية، وهذا تحديداً ما تطلّبه التخلّص من النازية في ألمانيا؟