شهدت العلاقات الباكستانية- الهندية شهوراً من السلام والهدوء ساعد في ذلك التفاعل الجيد بين مسؤولي البلدين على أعلى مستوى واللقاءات الدورية، التي كانت تجري بينهما لإذابة الخلافات وتوطيد العلاقات. لكن يبدو أن هذا السلام الهش بدأ يتعرض لامتحان حقيقي ليتراجع التحسن في العلاقات بين البلدين في الفترة الأخيرة إثر عمليات إطلاق النار التي عرفتها المناطق الحدودية في كشمير المتنازع عليها بين الهند وباكستان. فقد اتهمت الحكومة الهندية الجيش الباكستاني بالتسلل داخل الجزء الهندي وقتل جنديين، حيث تمت استعادة الجثتين اللتين بدا عليهما أثر التعذيب، بالإضافة إلى أن إحداهما كانت بدون رأس، ورغم نفي الجيش الباكستاني للتهم الموجهة له بالتورط في قتل الجنديين، فإن الحكومة الهندية أصرت على مسؤولية الجانب الباكستاني وحملت المسؤولية لوحدة في الجيش الباكستاني أقدمت على الفعلة. وأمام هذا الاتهام الذي يهدد بنسف العملية السلمية مع الهند، صعّدت إسلام آباد أيضاً من نبرتها متهمة الهند باقتراح التراب الباكستاني وقتل أحد جنودها على الجانب الباكستاني لكشمير، وهو تصعيد في العنف لم تعرفه العلاقات بين البلدين منذ فترة ما شجع على الاعتقاد بأن الأسوأ بين الجارين قد طوي إلى الأبد فقط لتعود النزاعات مجدداً تغذيها كشمير التي تظل بؤرة نزاع مشتعلة قادرة على إثارة المشاكل والاحتقان بين البلدين. وهكذا، وعلى وقع الاتهامات المتبادلة والتراشق الثنائي انخرط جيشا البلدين في إطلاق النيران على بعضهما البعض على جانبي الحدود في كشمير، مع توجيه الهند لاتهامات إلى باكستان باستخدام سلاح المدفعية كغطاء لتسلل المسلحين الكشميريين إلى الجزء الهندي وتنفيذ عمليات. وفي أثناء ذلك، ردت باكستان بأن الانتهاكات الهندية لاتفاق وقف إطلاق النار بين الطرفين تصاعدت وتيرتها في الآونة الأخيرة، وبالطبع صاحب هذه المواجهات العسكرية المحدودة تصعيد في الخطاب السياسي، حيث استدعت الهند السفير الباكستاني في نيودلهي وعبرت عن استيائها مما يجري في كشمير، مطالبة السلطات الباكستانية بفتح تحقيق فوري في حادث مقتل جنديين هنديين. وما هي إلا أيام حتى استدعى وزير الخارجية الباكستاني السفير الهندي في إسلام آباد لتوجيه شكوى رسمية لمقتل جندي باكستاني، مكرراً نفس طلب الجانب الهندي بفتح تحقيق في العملية والتحقق من الانتهاكات الهندية، حسب قوله، لاتفاقية وقف إطلاق النار، بل إن تداعيات الأمر لم تقف عند حدود الجانب الرسمي لتمتد إلى القوى السياسية والرأي العام، لا سيما في الهند التي تنامت فيها الأصوات المنادية بالتشدد تجاه باكستان. ففي البداية جاءت ردة الفعل الرسمية التي عبر عنها وزير الخارجية الهندي مخففة، فهو أدان حادث مقتل الجنديين الهنديين واعتبرها غير إنسانية، لكنه لم يزد على ذلك، بل لمح إلى أن الاتفاق المبرم بين البلدين الذي يسمح بدخول مواطني الدولتين من كبار السن لزيارة عائلاتهم دون تأشيرة ستستمر، ولن تؤثر عليها المناوشات الجارية على جانبي الحدود، لكن الضغوط التي مارستها القوى السياسية القومية في الهند ممثلة في حزب المعارضة «بهاراتيا جانتا» اليميني كان لها تأثير على المواقف الرسمية التي اضطرت إلى مجاراتها. وأمام الضغوط صرح رئيس الحكومة، مانموهان سنج، أن الأمور لا يمكنها أن تستمر كما كانت مع باكستان ما لم يفتح تحقيق عاجل في الموضوع، وتتم استعادة رأس الجندي الهندي الذي قتل في الهجوم. أما باكستان فقد استغلت المواجهات العنيفة على جانبي الحدود وتصاعد التوتر لتوجيه دعوة إلى الأمم المتحدة للتحقيق بنفسها في مقتل الجنديين الهنديين، هذا الطلب الذي رفضته الأمم المتحدة كما الولايات المتحدة مكررين موقهما السابق برفض جهود الوساطة في مسألة يعتبرانها ثنائية بين الهند وباكستان ولا مجال للتدخل فيها، بل إن الأمم المتحدة التي تلقت شكوى من باكستان لانتهاك خط وقف النار اكتفت بالتشديد على ضرورة احترام اتفاقية وقف إطلاق النار من الطرفين وانتهاج الحوار سبيلا لحل الخلافات المستحكمة، والحقيقة أن الموقف الباكستاني ينسجم مع قناعتها التقليدية بتدويل قضية كشمير وإشراك أطراف آخرى في الوساطة سواء الأمم المتحدة، أو أميركا، في حين تصر الهند على أن الحل لمعضلة كشمير يجب ألا يخرج عن الطابع الثنائي من خلال الحوار والتفاوض بما ينسجم مع معاهدة «سيملا» التي أبرمها البلدان. وتأتي المواجهات الأخيرة لتمثل أسوأ أعمال عنف تشهدها كشمير منذ التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار قبل عقد من الزمن، وبعد فترة من الهدوء على جانبي الحدود وفرت حياة الآلاف من جنود البلدين ليس من مصلحة الهند ولا باكستان اليوم الانخراط في مواجهات جديدة، لا سيما في ظل التوظيف السياسي الفج أحياناً للأحداث الأليمة من قبل قوى سياسية لا يهمها سوى تعزيز حظوظها. وبالنظر إلى الحساسية التي ينطوي عليها موضوع كشمير، فإن أي حركة غير محسوبة من الهند أو باكستان قد تشعل فتيل مواجهة كبرى. وليس من شك أن تصاعد التوتر بين الدولتين يبعث على القلق، ويدعو إلى الحرص حتى لا تنفلت الأمور من السيطرة في ظل عملية الشحن الإعلامي والسياسي التي تنخرط فيها بعض القوى السياسية، لذا من الضروري استمرار الحوار بين مسؤولي البلدين على أرفع مستوى، حتى لا يتم تهديد المكتسبات التي تحققت طيلة السنوات السابقة، وفي هذا السياق لن تستفيد الهند بمنع التأشيرة على المواطنين الباكستانيين من كبار السن. كما تنص على ذلك الاتفاقية الموقعة بين البلدين، ولن يحول هذا الإجراء دون التهديد الأمني للهند، كما أنه ليس من مصلحة باكستان فتح جبهة جديدة في الوقت الذي تواجه فيه مشاكلها الخاصة داخل حدودها، وتعاني من تدهور العلاقة مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى العمليات التي تنفذها الجماعات المتشددة داخل أراضيها. وفيما تستعد الولايات المتحدة للانسحاب من أفغانستان يجدر بإسلام آباد الاهتمام أكثر بتداعيات ذلك على الجانب الآخر من حدودها بدل التركيز على كشمير.