بدأت السنة الجديدة 2013 في أجواء دولية صعبة، هي في المقام الأول امتداد للسنة المنصرمة 2012 بكل ما عرفته من صراعات دولية، وتحولات سياسية، ومآزق مالية واقتصادية، ولذلك فإن أية عملية استشراف جادة للأفق الاستراتيجي والسياسي المتوقع خلال السنة الجديدة، قد تتحول تلقائياً إلى نوع من التسجيل الما بعدي لأحداث ووقائع السنة السابقة، بحكم ترحيل وتأجيل حسم كثير من ملفات ومشكلات الأمس القريب لتفرض نفسها على أجندة اليوم، وربما الغد أيضاً. ولكن فك الارتباط بين عمليتي رصد ما جرى واستشراف ما يتوقع أن يجري، في منعطف عامين، تبقى مع ذلك مهمة ممكنة من الناحية المنهجية والإجرائية، من خلال تفكيك تشابكات الملفات، ووضعها في أطر تفسيرية قابلة للفهم، وتكليف بعض أفضل المتخصصين في كل ملف على حدة بدراسته ضمن جهد منسق، ومتجه، وذي غايات معرفية محددة بعناية. ولعل هذا هو أنجزه كتاب قيّم أصدرته دار "لادكوفيرت" الفرنسية منذ فترة غير بعيدة، نشير هنا إلى بعض محتوياته، وعنوانه: "الصدع... حال العالم 2013"، وقد نسّق وأشرف على عملية إصداره الأكاديمي وعالم السياسة الفرنسي برتراند بادي والصحفي والمؤرخ "دومينيك فيدال". ويتألف الكتاب من ثلاثة أجزاء، موزعة على 28 موضوعاً دولياً، يتعامل معها مؤلفوه كوحدات بحث واستظهار، تتراوح بين تحديات الأزمة المالية وسبل خروج الدول الأوروبية خاصة من نفقها المظلم، وتحولات الحراك العربي، واستمرار بعض تفاقم النزاعات الدولية العارمة في الشرق الأوسط ومناطق احتقان عالمية أخرى متوترة، وظهور أعراض ونذر احتقانات، ونزاعات أخرى في شرق آسيا ومنطقة المحيط الهادئ، هذا وصولاً إلى ظهور أعراض لتحول بعض الأزمات السياسية إلى أزمات اجتماعية بفعل سياسات التقشف وتداعيات واقع الكساد العالمي، مما أدى إلى نوع من القطيعة بين الأزمات الاجتماعية والتدابير السياسية، وكل هذا يستدعي اليوم كثيراً من روح المبادرة والخيال السياسي، لتصفية التركة الثقيلة التي أورثتها السنة الماضية للسنة الجديدة، بحسب المؤلفين. وفي هذه الزاوية بالذات من زوايا النظر التي قاربها الكتاب يرى المؤرخ دومينيك فيدال أن اصطدام سياسات التقشف الاقتصادي مع استحقاقات الالتزام الاجتماعي العام تبدو أوضح ما تكون في الحالة الأوروبية تحديداً وما اتخذ فيها من سياسات ومبادرات طيلة السنة الماضية، حيث لم تتمكن المؤسسات الأوروبية ولا الاتحاد نفسه من التوصل إلى طريقة فعالة لإيجاد حلول للمشكلات الاجتماعية الناجمة عن سياسات التقشف، وفي الوقت ذاته أخفقت هذه السياسات أيضاً في احتواء التداعي المالي والكساد الاقتصادي، ولعل أقصى ما حققته هو التقليل فقط من حجم ذلك التداعي، وتلافي انهيار بعض الاقتصادات الأوروبية بشكل كامل. وفي دارسة أخرى حول المشكلة الاقتصادية الأوروبية يتتبع أيضاً الاقتصادي "آلان ليبتز" المسار التاريخي الذي مر منه المشروع الأوروبي نفسه، وبعض ما أقدم عليه من خيارات سرّعت من عملية البناء الاتحادي الأوروبي، ولكن تكشف الآن أيضاً بعض آثارها الجانبية التي لم توضع سلفاً في الحسبان. وفي دراسة أخرى، يستعرض المؤلفون أيضاً الجغرافية السياسية للنزاعات مبرزين علاقة ذلك ببنية وطبيعة النظام الدولي ما بعد الثنائية القطبية، وما يسمونه الصعود الإمبريالي للولايات المتحدة الأميركية، باعتبارها القوة الدولية العظمى الوحيدة المتحكمة في النظام العالمي. ويبرز الكتاب هنا مع ذلك أن كل تلك المؤلفات والنظريات التي بنيت على افتراض نوع من استدامة الأحادية القطبية الأميركية كانت في الواقع قائمة على افتراض نظري غير حصيف، حيث إن صعود القوى الدولية البازغة الآن دليل على أن العالم مقبل على تعددية قطبية جديدة، من نوع آخر، لا يبقى معها مجال لافتراض استدامة الأحادية الأميركية أو حتى الغربية لوقت مديد. غير أن من اللافت أيضاً في خريطة الجغرافية السياسية للنزاعات أن السنوات الثلاث الأخيرة لم تشهد نزاعات دولية كبيرة مندلعة على أساس افتراق المصالح بين الدول، وإنما سجل عدد متعاظم من النزاعات الداخلية التي تشهدها الدولة الواحدة ذاتها، بين مختلف مكوناتها من جماعات المصالح أو الطوائف والطبقات والشرائح السكانية المختلفة. ومعظم هذه النزاعات ناشب أساساً من أجل الصراع على الموارد أو التنافس على الحضور في المجال العام ومواقع التأثير. وبعض النزاعات الدولية الأخرى ناشب أيضاً من أجل الصراع على الموارد كمصادر الطاقة، أو ضمن إرهاصات حروب المياه المقبلة. ويفرد مؤلفو هذا الكتاب دراسة أخرى مهمة حول خطر انتشار الأسلحة الفردية باعتبارها مهدداً حقيقياً للاستقرار والأمان العام في كثير من بلدان العالم التي تتفشى فيها ظاهرة امتلاك الأسلحة النارية، مثلما جرى في أميركا مؤخراً، وأيضاً باعتبار صناعتها وتصديرها تجارة رائجة تدر عشرات المليارات سنوياً، وينخرط فيها بنشاط أكثر من مئة دولة في العالم، كما أن انتشارها يغذي النزاعات ويزيد مخاطر جماعات العنف والجريمة وحركات التمرد من كل صنف ولون، ولذلك اعتبر الكُتاب أن انتشار الأسلحة الفردية بهذه الدرجة من الخطورة والاتساع في عالم اليوم بات جديراً بإعطائها هي أيضاً صفة أسلحة الدمار الشامل الحقيقية! حسن ولد المختار الكتاب: الصدع... حال العالم 2013 المؤلف: مجموعة مؤلفين الناشر: لا ديكوفرت تاريخ النشر: 2012