ربما شارف ما يسمى بـ«الربيع العربي» على نهايته في البلدان التي شهدت احتجاجات نجمت عنها تغيرات دراماتيكية وسريعة وسيكون لها انعكاسات مؤثرة ليس على مستقبل بلدان «الربيع»، وإنما على الأوضاع في المنطقة ككل، ومن هنا جاءت أهمية ندوة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب التي عقدت بدولة الكويت مؤخراً ضمن مهرجان القرين الثقافي المميز والمتعدد الفعاليات. وعلى رغم أن تحليل الأحداث الماضية هيمن على مداولات الندوة، إلا أن استشراف المستقبل شكل أيضاً قضية أساسية لما قد تكون عليه الأوضاع هناك وفي المنطقة بشكل عام، حيث يمكن في هذا الصدد الإشارة إلى جانبين مهمين يمكن أن يوضحا بعض الآفاق المستقبلية لسير تطور الأحداث، وذلك من خلال فهم العقلية الشرقية، بما فيها العربية. وفي هذا الصدد سنشير إلى مقارنتين، إذ على رغم الفارق الشاسع بينهما، إلا أن هناك عوامل مشتركة تربطهما، فإذا ما تناولنا ما هو مشترك بين أحداث ألمانيا الشرقية أثناء سقوط جدار برلين وأحداث مصر الأخيرة، فإنه يمكن ملاحظة التشابه من خلال انهيار النظامين ووجود رئيس على فراش المرض، هما أريك هونيكر وحسني مبارك. ألمانيا تجاهلت وجود الرئيس السابق الذي كان يصارع الموت وجعلته يموت بهدوء، بل إنها دفعت تكاليف علاجه في الخارج باعتباره مواطناً ألمانياً بغض النظر عما ارتكبه نظامه من تجاوزات واتجهت إلى المهمة الأساسية الكامنة في التنمية وإعادة بناء الأمة الألمانية الموحدة. أما في مصر، فقد أهمل موضوع التنمية الذي كان أحد أسباب الاحتجاجات واتجهت الأمور من قبل النظام الجديد للثأر بسبب تجذر عملية الثأر في العقلية العربية عبر التاريخ، حيث تقرر مؤخراً إعادة محاكمة مبارك، وربما يحكم عليه بالإعدام -إذا بقي على قيد الحياة- في حين أن ما يرتبط بمصالح البلد حالياً ليس موضوع مبارك بقدر الاهتمام بوقف تدهور مستويات المعيشة وتوفير فرص العمل، وخصوصاً أن مصر بدأت تفقد الكفاءات المهنية، حيث استقال مؤخراً محافظ المصرف المركزي ورئيس البنك الأهلي، وهو أحد أكبر البنوك التجارية بسبب ضغوط النظام الجديد. أما القضية الأخرى، فتتعلق بالعلاقة بين المهنية والإدارة، فالحكومة البريطانية قررت الشهر الماضي على سبيل المثال تعيين محافظٍ لمصرف إنجلترا المركزي كندي الجنسية ولكنه يتمتع بخبرة ومهارات مهنية راقية، وفي المقابل أقيل محافظ المصرف المركزي في تونس رغم مهنيته المميزة وفوزه بجائزة أفضل محافظ مركزي في أفريقيا لعام 2012 وذلك بسبب عدم انسجامه مع السياسات غير المهنية للنظام الجديد وتعيين شخص لا يتمتع بالكفاءة والخبرة لإدارة هذه المؤسسة المهمة للمستقبل الاقتصادي لتونس، وقبل ذلك استقال العديد من الوزراء المهنيين الذين يتمتعون بكفاءات عالية وغير محسوبين على النظام القديم. ولذلك، فإن استمرار عمليات الثأر والابتعاد عن المهنية سيكون مكلفاً لهذه البلدان وسيؤدي إلى المزيد من التدهور في الاقتصاد وارتفاع معدلات البطالة والتضخم، في الوقت الذي يتطلب الأمر الاستفادة من الكفاءات المتوافرة بغض النظر عن تفاوت الآراء والابتعاد عن الثأر غير المجدي وتوجيه الاهتمامات والإمكانيات لوضع برامج تنموية تبرر التضحيات التي قدمت وإعادة هيكلة الاقتصاد بما يؤدي إلى جذب رؤوس الأموال واستقطاب الكفاءات التي اضطرت للهجرة بسبب المضايقات. ومع أن الأمور للأسف لا تسير في هذا الاتجاه، إلا أن هذا التوجه أصبح ضرورة موضوعية تتلاءم والمطالب العامة من جهة والتغيرات في العلاقات الدولية من جهة أخرى، وذلك قبل أن يصاب المجتمع بالإحباط الذي بدأت بوادره في الظهور في بلدان «الربيع»، ويمكن أن يأتي بربيع آخر، بعيداً عن الثأر وأكثر اهتماماً بوضع رؤى وبرامج اقتصادية تلبي طموحات الناس المعيشية وتحترم خصوصياتهم وتضع هذه البلدان على طريق التنمية والتقدم الاجتماعي، وهو ما يعكس مساهمة وأهمية ندوة مهرجان القرين الثقافي الذي أصبح علامة فارقة تساهم في التنمية بكافة أشكالها.