أثبتت خبرات الدول التي تأخذ بالنظام الرئاسي أو النظام المختلط أن منح رئيس الجمهورية الحق في الدعوة إلى إجراء استفتاء عام بلا ضوابط أو قواعد، يضع بين يديه سلطة مطلقة تناقض الأساس الذي تقوم عليه الديمقراطية. لذلك أسفرت هذه الخبرات عن دروس في مقدمتها ضرورة وضع ضوابط على سلطة رئيس الجمهورية في الدعوة إلى إجراء الاستفتاء العام، بما يحول دون إساءة استخدامها ويحصرها فيما هو ضروري بالفعل، فضلاً عن زيادة الشروط اللازمة لضمان صحة أي استفتاء وسلامته. ومن أهم هذه الشروط مشاركة نصف الناخبين المقيدين على الأقل في الإدلاء بأصواتهم حتى لا تفرض أقلية صغيرة إرادتها على الأغلبية. ولمزيد من ضمان سلامة تعبير المستفتين عن الإرادة الشعبية، أصبح الاتجاه الآن إلى عدم الاكتفاء بالأغلبية المطلقة (50 في المائة + 1) واشتراط أغلبية خاصة لا تقل عن الثلثين وتصل في بعض البلاد إلى 75 في المائة. وهذا هو الاتجاه العام في الدول التي تتحول إلى ديمقراطية حقيقية في المرحلة الراهنة، أو ما يُطلق عليه الديمقراطيات الحديثة. لكن الدستور المصري الجديد، الذي تم تمريره بدون توافق وطني، مضى في اتجاه معاكس وأعطى رئيس الجمهورية سلطة مطلقة في الدعوة إلى إجراء الاستفتاء العام بلا ضوابط إلا في حالة واحدة فقط تتعلق بحل البرلمان. وتتيح له هذه السلطة أن يفعل ما يشاء عبر الاستفتاء الذي يستطيع الدعوة إليه في أي وقت يراه وفقاً للمادة 150: «لرئيس الجمهورية أن يدعو الناخبين للاستفتاء في المسائل المهمة التي تتصل بمصالح الدولة العليا. ونتيجة الاستفتاء ملزمة لجميع سلطات الدولة وللكافة في كل الأحوال». ويبدو النص على هذا النحو مخالفاً للاتجاه العام في الدساتير الحديثة التي تنحو إلى وضع ضوابط على موضوع الاستفتاء من حيث المبدأ وعلى سلطة رئيس الجمهورية في استخدامه، فضلاً عن المغالاة في صياغته حتى مقارنة بالمادة 152 في دستور عام 1971 والتي لم تتضمن أن تكون نتيجة الاستفتاء ملزمة لجميع سلطات الدولة وللكافة في جميع الأحوال. فالمفترض بداهة أن نتيجة الاستفتاء ملزمة في حينها. لذلك فليس مفهوماً مغزى عبارة «في جميع الأحوال» ولا المقصود بها، وهل تعني منع المؤسسات الملزمة بنتيجة الاستفتاء عقب إعلانها من اتخاذ إجراءات تختلف عنها في حال تغير الظروف بعد فترة من الزمن. ولذلك فإذا كان إطلاق سلطة الرئيس في الدعوة إلى استفتاءات بلا ضوابط خطراً، فاستخدم عبارات مطاطة من نوع «في جميع الأحوال» يزيد هذا الخطر. ووجه الخطر الأساسي الذي ينطوي عليه عدم تنظيم السلطة الخاصة بالدعوة إلى استفتاء عام هو أنه يعطي رئيس الجمهورية رخصة لاستخدام هذه السلطة لحسم أي خلاف مع مؤسسات الدولة بما فيها هيئات السلطة القضائية عندما يكون موقفه ضعيفاً في هذا الخلاف. فبإمكانه اللجوء في هذه الحالة إلى إجراء استفتاء عام. وليس هناك أيسر من التلاعب بمشاعر الرأي العام في أي بلد لم تنضج فيه الممارسة الديمقراطية، عبر التخويف من مؤامرات أو أخطار وهمية أو خلط السياسية بالدين. وتدل التجربة في مصر على أن جميع الاستفتاءات التي أجريت منذ يناير عام 1956 انتهت بالموافقة عليها، وقد بلغ عددها 21 استفتاء قبل ثورة 25 يناير. وحدث ذلك بدون تلاعب بالدين وخلطه بالسياسة، فما بالنا حين يتم تديين السياسة وتسييس الدين على النحو الذي يحدث منذ استفتاء 19 مارس عام 2011. ولا يقل خطراً في الدستور المصري الجديد إعطاء رئيس الجمهورية سلطة منفردة في تحديد مصالح الدولة العليا. فعندما يكون هو الوحيد الذي يملك سلطة دعوة الناخبين للاستفتاء (في المسائل المهمة التي تتصل بمصالح الدولة العليا)، فهذا يعني أنه الوحيد أيضاً الذي يعرف هذه المصالح. وفي إمكانه ترتيباً على ذلك، أن يدعو الشعب إلى أن يقول «نعم» في أي أمر يريده بدعوى تحقيق مصالح الدولة العليا أو حمايتها من أخطار قد تكون وهمية. وعندئذ قد يؤدي الاستفتاء إلى تقييد الحقوق والحريات كما حدث فعلاً في مصر عدة مرات. فقد دعا السادات في فبراير عام 1977 إلى استفتاء على قرار بقانون لتشديد العقوبات على المظاهرات والإضرابات. وكان ذلك عقب انتفاضة يومي 18 و19 يناير عام 1977 الشعبية ضد رفع الأسعار. كما دعا في مايو عام 1978 إلى استفتاء آخر على ما أسماه مبادئ حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي من أجل فرض عزل سياسي على عدد من قادة حزب «الوفد» الذي لم يكن قد مضى على تأسيسه أكثر من ثلاثة أشهر. وليس هذان إلا مثالين من أمثلة كثيرة تؤكد سهولة إساءة استخدام سلطة الدعوة إلى استفتاء بدون ضوابط أو قواعد. لذلك تتجه الدساتير الحديثة إلى تقييد سلطة رئيس الجمهورية في إجراء الاستفتاء. لكن الدستور المصري لم يأخذ بهذا الاتجاه إلا على سبيل الاستثناء من القاعدة العامة، وذلك في المادة 127 الخاصة بحل مجلس النواب. فقد حددت هذه المادة ضوابط سلطة الرئيس في الدعوة إلى استفتاء على حل مجلس النواب: «لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس النواب إلا بقرار مسبب وبعد استفتاء الشعب. ولا يجوز حل المجلس خلال دور انعقاده السنوي الأول، ولا للسبب الذي حُل من أجله المجلس السابق». ويختلف هذا تماماً عن القاعدة العامة في الدستور والتي تمنح الرئيس سلطة مطلقة في الدعوة إلى استفتاء على أي أمر بخلاف حل مجلس النواب. ولذلك تبدو الفلسفة العامة للدستور في هذا المجال مرتبكة ومعيبة لأنها تجمع بين توجهين متعارضين: أولهما -وهو السائد- يمنح الرئيس سلطة مطلقة بلا ضوابط في الدعوة إلى استفتاء على أي أمر يريده. وينطوي ذلك على افتراض غير منطقي وهو أنه لا يمكن أن يسيء استخدام هذه السلطة بأي حال. وثانيهما -وهو استثناء من هذه القاعدة- يضع ضوابط على سلطة الرئيس في الدعوة إلى استفتاء على حل مجلس النواب فقط لا غير. ويعنى ذلك افتراضاً مناقضاً للافتراض السابق، وهو أن الرئيس يمكن أن يسيء استخدام سلطته، لذلك وجب وضع ضوابط عليها بشأن حل مجلس النواب. فإذا كان افتراض إساءة استخدام سلطة الدعوة إلى الاستفتاء صحيحاً، فلماذا يتركها الدستور مطلقة بلا أي ضوابط باستثناء حالة واحدة لا ثاني لها؟!