يقول عميد الاستراتيجيين كارل كلاوزفيتز (1780-1831) «إن تأثيرات دور العبقري لا تظهر كثيراً في المراحل الأولية أو الأنماط الجديدة للعمل كما تظهر في النجاح النهائي للعمل بأكمله. إن ما ينبغي علينا تقديره هو التنفيذ الدقيق للافتراضات غير المرئية وغير المعلنة، والانسجام السلس للنشاط في مجمله، وهذا لا يصبح جلياً إلا عند تحقيق النجاح النهائي»، لا أسرد هذه المقولة لكي أقول إن الرئيس الأميركي عبقري، ولكنه حاد الذكاء في فهمه للسياسة وللاستراتيجية والتطبيق وتنفيذها كثلاثة محددات متداخلة في السياسة الخارجية والأمن القومي الأميركي. والعلاقة بين تلكم المحددات الثلاثة مترابطة وتعتمد على درجة تعقيدات البيئة الاستراتيجية والمستوى الهيكلي للخطر وطبيعة التخوف ومؤشرات التوقيت وبعد نظر القيادة التي تتربع على أعلى هرم السلطة، ومختلف الخيارات المتاحة أمامها. والاستراتيجية ينبغي ألا تتأثر بالأهواء السياسية الضيقة وإلا فإن مآلها الفشل، إذ يجب أن تخضع لنماذج فكرية منضبطة، كما أن الاستراتيجية تعامل السياسة على أنها أحد العوامل ولا تشارك في العملية السياسية. قارن معي التعيينات الأخيرة للرئيس أوباما: اختيار السيناتور السابق الجمهوري شاك هاجل وزيراً للدفاع، ثم اختيار جون برينان، مستشار مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض لشغل منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي أيه» ثم اختيار السيناتور الديمقراطي المعتدل جون كيري، وزيراً للخارجية. ودلالة هذه التعيينات لم تلق آذاناً صاغية في عقر الانتماءات الحزبية للمعينين مثلاً كما هي حال هاجل الذي ينتقده الجناح اليميني داخل الحزب الجمهوري على أنه يتساهل مع إيران، ويستعجل الانسحاب من أفغانستان ولا يؤيد إسرائيل تأييداً قوياً، ففي عام 2006 أطلق انتقادات حادة تجاه بوش الابن في سياسته نحو غزو إسرائيل لجنوب لبنان، وقال السيناتور الجمهوري بالحرف «يجب إنهاء الذبح المقزز من كلا الجانبين، ويجب أن ينتهي هذا الآن، ويجب أن يدعو الرئيس بوش لوقف إطلاق النار فوراً... يجب التوقف عن هذه الحماقات(…) علاقتنا مع إسرائيل خاصة وتاريخية لكن ليس من الضروري ولا يمكن أن تكون على حساب علاقاتنا العربية والإسلامية، هذا خيار زائف وغير مسؤول وخطير». وأنصح خبراء الاستراتيجية بقراءة مذكراته التي كتبها منذ أربع سنوات «أميركا الفصل التالي... أسئلة صعبة وأجوبة واضحة» حيث طور نظرية استراتيجية مفادها أن الولايات المتحدة الأميركية تحتاج على المديين المتوسط والبعيد إلى قيادة مستقلة غير القيادة التقليدية للحزبين الجمهوري والديمقراطي. أوباما فهم أن الاستراتيجية الدولية أصبحت معقدة ومكلفة، وهي خاضعة للاستقرار أو عدم الاستقرار، ويتزايد فيها عدم الاستقرار بحكم تعرضها لعملية إعادة توازن جذرية جديدة. وهذه التغيرات تعكس اضطرابات في العوامل الأساسية للاستمرارية في البيئة الاستراتيجية، ومن هنا ضرورة وجود استراتيجيين عباقرة على حد تعبير كلاوزفيتز، وهذا يتطلب منهم الاكتناز العقلاني للمعلومات والمعرفة، والتفاني في عملية إنتاجهما وتوزيعهما وتخزينهما، وانتقادهما واستخدامهما بطريقة صائبة بوصفهما النشاط الأساسي لمجتمع الأمن القومي والمصالح العليا على غرار حصاد الموسم الزراعي أو إنتاج المواد المصنعة. ولذا فإن أوباما في حاجة إلى أدوار خبراء استراتيجيين جدد لإعادة إصلاح وتشكيل بيئة استراتيجية جديدة خاصة، مع ازدياد الصعوبات وعدم الاستقرار في النظام العالمي خدمة للمصالح الوطنية... ويريد أوباما من «السي آي أيه» تغيير لباسها القتالي والعودة إلى دورها الاستخباري في جمع المعلومات ولو احتفظت بالأسطول الضخم للطائرات المسلحة التي تعمل من دون طيار... كما أنه يريد خفض ميزانية الدفاع التي تأتي على 20 في المئة من ميزانية الدولة، أي من أموال دافعي الضرائب، مقابل صعود الصين كقوة عسكرية وتصاعد وتيرة الإرهاب التابع لتنظيم «القاعدة» في أفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط، كما أنه يريد سحب قواته العسكرية من أفغانستان، وحلولاً ذكية للمشاكل التي تعج بها منطقة الشرق الأوسط. وهاجل مثل كيري، حاربا في فيتنام وحصلا على ميداليات كثيرة، ولما عادا من الحرب انتقداها أيما انتقاد وطالبا بالإسراع بسحب الجنود الأميركيين من هناك، ولقد أشار إلى ذلك منذ أيام أوباما في خطابه عندما قال: «إنه يفضل وزراء خارجية ودفاع يعرفون عن العالم الذي حولنا، وهذه ميزة لا تتوافر كثيراً في هذه المدينة -أي واشنطن»، وهاجل حصل على وسام صليب البسالة الفيتنامية ووسام بيريل هيرب مرتين ووسام الاتصالات العسكرية ووسام فرقة المشاة الممتازة وقال عنه أوباما إنه أول وزير دفاع أميركي حارب في ميدان قتال «وإنه تلطخ بالطين وأصيب بجروح وواجه الحرب مواجهة واقعية، كان جندياً حقيقياً». وهذه إشارة من رئيس البيت الأبيض إلا أن هاجل لم يكن ضابطاً ولم يتخرج من كلية عسكرية وهي إشارة غير مباشرة للجمهوريين المعارضين له إلى أن البيئة الاستراتيجية قد تغيرت وهي بحاجة إلى أطباء استراتيجيين نفسانيين جدد وإلى دبلوماسيين مثل كيري يعملون في مهمات صعبة وبدون ضجيج وفي دبلوماسية «الظل»... ويخطئ الجمهوريون عندما يظنون أن التعيينات الأخيرة مفادها أن أوباما يريد أن يزيح أميركا من المشكل النووي الإيراني... يكفي الرجوع إلى كتابات موريس جانوفيتس الذي تتلمذ عليه العديد من الاستراتيجيين الأميركيين الحاليين لتمثل ذلك، ففرقة أوباما هي فرقة عسكرية رغماً عنها، ما قد يجعلها تؤذن بالحرب إذا فرضت الظروف ذلك، والمهم أن تكون القوة وسيلة وليست غاية والبصيرة حاضرة، وتوماس كارليل له كلام مشهود في هذا المقام: «لا شيء أكثر ضرراً من العمل من دون بصيرة» وإشارتي هنا إلى أن المحافظين الجدد في أميركا: علماء استراتيجيون من دون بصيرة.