يشبه الوضع السياسي في بلدان «الربيع العربي» التي تشهد مصاعب التحول الديمقراطي الوضع في ألمانيا ما بين الحربين، أي الحالة الانتقالية لـ«جمهورية فايمر» التي كرست النظام البرلماني التعددي بعد تحلل الإمبراطورية وهزيمتها العسكرية. والمعروف أن هذه الحالة البرلمانية ظلت قائمة من سنة 1918 إلى سنة 1933 بصعود الزعيم النازي هتلر الذي قوض تجربة الديمقراطية التعددية. بطبيعة الأمر لهذه المقارنة حدود بديهية، فالسياقان متغايران من أوجه جوهرية، لكن ألمانيا التي لم تعرف الثورة الليبرالية على الطريقة الإنجليزية ولا نمط الثورة الشعبية الراديكالية على الطريقة الفرنسية لم تدخل المعترك الديمقراطي إلا في منتصف القرن العشرين، ولم تعمر تجربتها طويلاً. وعلى الرغم من هشاشة تجربة جمهورية «فيمر» وقصرها، إلا أنها ولدت نقاشاً فكرياً ثرياً على المستويين الفلسفي والقانوني تمحور حول إشكالية الشرعية والمشروعية التي نعتقد أنها الإشكالية الحاسمة المطروحة اليوم في الساحة العربية. وتنبع هذه الإشكالية من نمط الحاكمية الديمقراطية الذي يتميز بكونه يفصل لأول مرة في مسار الفكر السياسي بين محددي المشروعية كمعيار قيمي وجوهري والشرعية مختزلة في الأبعاد الإجرائية والقانونية. تركز الحوار الفلسفي – القانوني حول مسألة الشرعية في الجدل العميق بين عالم الاجتماع الألماني الأشهر «ماكس فيبر»، الذي أسهم في بلورة دستور جمهورية «فيمر»، والفيلسوف والقانوني «كارل شميت»، وأسهم فيه عدد كبير من أبرز وجوه الفكر الألماني البارزة في مرحلة ما بين الحربين. والمعروف أن «فيبر» بلور أهم نظرية معاصرة حول الشرعية في تمييزه المشهور بين ثلاثة أنماط من الشرعية: تقليدية وراثية وإشعاعية كارزمائية وقانونية– عقلانية. وغني عن البيان أن الشرعية التي تناسب النظام الديمقراطي هي الشرعية القانونية العقلانية التي تتأقلم مع مسار العقلنة النظرية والعملية للمجتمعات العلمانية التعددية. بيد أن «فيبر» الذي كان يصدر في تحديداته الاصطلاحية من منهج وصفي يتسم حسب عبارته بـ«الحياد المعياري»، لم يعالج إشكال مشروعية الفعل السياسي، بل نظر للمسلك الديمقراطي في سياق تحليله وتصنيفه لمنظومات الهيمنة، أي آليات الخضوع والطاعة بغض النظر عن الخلفية القيمية لنمط النظام السياسي. نظرية الشرعية من هذا المنظور هي مجرد ضرب من تحليلية أصناف الفعل الاجتماعي، مع إقصاء موضوع القبول والتوافق الذي شغل فلاسفة العقد الاجتماعي في تأسيسهم النظري لمسألة السلطة المنظمة من منطلق الإرادة الفردية الحرة. ولذا انتقد «فيبر» في سكوته عن إشكال المشروعية الذي تطرحه مقتضيات القبول الإرادي لنظام الهيمنة، مما برز بوضوح لدى تيار «الحق الطبيعي»، الذي يمثله أوانها «ليو شتراوس» في نقده للنزعة الإجرائية التاريخانية للشرعية، التي يراها قادرة على بناء مفهوم حقيقي للشرعية التي تتعارض مع النسبية القيمية. في دراسته الشهيرة حول «الشرعية والمشروعية»، التي نشرها «كارل شميت» في كتاب تكريمي لأستاذه «ماكس فيبر» يبين الفيلسوف والقانوني الألماني البارز أن مصدر الإشكال الذي يطرحه الجدل حول الشرعية في المجتمعات الديمقراطية عائد إلى ما تقوم عليه المنظومة الديمقراطية من مسلمة التماهي بين القانون والإرادة الشعبية، والدولة والأمة، وبالتالي اختزال السياسة في القانون، مما يحول دون تبين الفعل السياسي في فاعليته المميزة. فالمشكل الذي تطرحه نظرية الشرعية «الفيبرية» هو أنها لم تدرك النتائج المترتبة على الانتقال من نمط الحكم التقليدي القائم على تمايز علاقة الحكم في ثنائية الحاكم والمحكوم، في الوقت الذي تنتفي هذه الثنائية في الشرعية الديمقراطية، التي يحتفظ الشعب نفسه بالسلطة، ويكتفي فيها الفعل السياسي بتجسيد القانون. إنما يبينه «شميت» هو أن السياسة لا يمكن أن تتلخص في تجسيد القانون، فدورها ليس دور مجرد الوسيط لتفعيل معايير صورية قبلية، بل من شأن هذا التجسيد أن يفضي إلى مفارقة نفي القانون ذاته باعتبارها تصدر عن فعل أمري تنفيذي ليس داخلاً في المقتضى الضمني للقانون من حيث هو منظومة معيارية صرفة. فالقانون المجرد مهما كان اتساقه الصوري وصفاؤه المعياري، يحتاج لضمانة سياسية لتنفيذه، ومن ثم فإنه يفضي ضرورة إلى السؤال الجوهري المتعلق بسلطة القرار التي تنعقد لها الطاعة وينفذ أمرها. ومن هنا تعريف «شميت» للسياسة ببعدها الصراعي المرتبط جوهراً بثنائية الصديق والعدو، التي لا يمكن احتواؤها في مفهوم مجرد للشرعية. فالديمقراطيات الحديثة القائمة على «ديكتاتوريات السلطة البرلمانية» تعاني حسب «شميت» من اختلال في التوازن بين مرتكزاتها المؤسسية رغم التقسيم المعروف بين السلطات الثلاث المستقلة، في الوقت الذي ليس من الدقيق استنتاج مقتضى الإرادة الجماعية من مجرد النقاش التداولي، الذي يعكس إيماناً ميتافيزيقياً بقدرة العقلانية الفردية على الوصول إلى المعايير الموضوعية اليقينية الضابطة للشأن العمومي. أوردنا جانباً من جوانب إشكال الشرعية في المناظرات الفكرية التي ولدتها جمهورية فيمر، لإبراز سمات التعقد في المسألة الديمقراطية، التي لا يمكن اختزالها في الشرعية القانونية الإجرائية التي يمكن أن تتحول إلى مجرد منظومة أخرى من منظومات الهيمنة التي عرفها تاريخ المجتمعات الإنسانية، إذا لم تراع الإشكاليات الجوهرية المتعلقة بأبعاد العلاقة المتشابكة بين مساري تشكل الإرادة الحرة والتعبير الإجرائي والتنظيمي عن هذه الإرادة. وإذا كان «شميت» قد أشار إلى بعض المخاطر الظاهرة في عصره من قبيل الاستبداديات الأيديولوجية والثورات الراديكالية العنيفة، فإن الدرس الذي نستخلصه من التجربة الألمانية (حتى لو لم نوافقه في نزعته المناوئة لليبرالية) هو أن الإشكالات السياسية لا يمكن حلها بالصياغات القانونية الصرفة، التي هي الحصيلة النهائية لحركيتين متمايزتين هما التوازنات المرحلية حول القيم العمومية والمدونة المعيارية الوضعية التي تميل في المجتمعات الحديثة للتميز مشكلة حقلاً منفصلاً عن الشأن السياسي. ما نريد أن نخلص إليه هو أن إشكال الشرعية يظل سياسياً في العمق وهو إشكال مطروح بحدة في الديمقراطيات العربية الانتقالية.