لم تبدأ جماعة «الإخوان المسلمين» تاريخها بوصولها للسلطة بعدما سمّي بـ«الربيع العربي»، ولن ينته تاريخها بذلك، ففي التفاصيل كثيرٌ من الشياطين العلمية والموضوعية والتاريخية، إنْ من داخل الجماعة وإنْ من خارجها. كتب كثير من أعضاء الجماعة تاريخهم الخاص وتاريخ الجماعة بعموم على عدة أشكال تناول بعضها سيراً ذاتيةً كما كتب حسن البنّا وغيره من قيادات الجماعة وكتب بعضهم تفاصيل عاشوها وشاركوا فيها كما كتب بعضهم عن التنظيم الخاص، وكتب بعضهم سيرته الخاصة وتناول «الإخوان» خلالها، وغيره من أنواع التصانيف. تفاجأ كثيرون من داخل جماعة «الإخوان المسلمين» حين تمّ الكشف عن التنظيم الخاص أكثر مما تفاجأ غيرهم من خارج الجماعة، وقد كتبوا وعبروا عن ذلك لاحقاً، ذلك أنّ بعضهم شعر بحجم الخديعة التي كان يتعرض لها على يد قيادة الجماعة ممثلة في مرشدها العام حسن البنا، وقد كتب كبار أدباء ذلك العصر من مثل عباس العقاد وطه حسين وغيرهما يستنكرون حجم العنف والدموية التي كانت تكتنزها الجماعة. كان حسن البنّا ممتلأً بفكرة أنّ جماعته يجب أن تمتلك القوّة، وعلى الرغم من أسلوبه المعروف بالالتواء والإسهاب، فإنّ قراءته لهذا المفهوم كانت تنتهي دائماً بالقوة العسكرية وقوّة السلاح، وقد واصل خلفه حسن الهضيبي نفس المنوال، فقد كان له تنظيمه الخاص الذي دعم به تواصل التنظيم الخاص زمن البنا والتنظيم الخاص، لسيد قطب وجمع بينهما وواصل الطريق. من نفس الفكرة وذات النبع ومن رحم جماعة «الإخوان المسلمين» خرجت تنظيمات العنف الديني في السبعينيات من أمثال تنظيم «الجهاد» وتنظيم «الفنية العسكرية» ونحوهما من التنظيمات التي تبنّت تكفير المسلمين على مستوى الأفكار وإباحة قتالهم وقتال دولتهم وقتلهم كما تبنّت تنفيذ ذلك على أرض الواقع، فشرعت قتلاً وتفجيراً في كافة شرائح المجتمع ولم تقتصر على السياسيين كما يحسب البعض. روّجت جماعة «الإخوان المسلمين» طويلاً لأكذوبة أنها جماعة دعويةٌ مسالمةٌ وأن غرضها هداية الناس إلى طريق الخير والمحبة، وهي أكذوبة انطلت على كثير من المتماسين مع تاريخ الجماعة بشكل أو بآخر، ولكنّها أبداً لم تنطل على الباحثين الذين غاصوا في تفاصيل ما كتب عن الجماعة من داخلها أو من خارجها وعلى كافة فترات تاريخها الممتد لأكثر من ثمانين عاماً، لقد كانت جماعة تأزر للعنف والتطرف، وإنْ لبست للناس مسوح الضأن في أزمنة تعتقد فيها أنها مستضعفة ولم تصل بعد لمرحلة «التمكين». لم تزل جماعة «الإخوان المسلمين» تشغل الباحثين على مدى عقود والكتب التي صدرت من الجماعة أو عنها أو حولها لا تحصى عدداً، وهي لم تزل محلّ بحث ونظر وتمحيص، وذلك لكثافة اعتماد الجماعة على «السريّة» وعلى «الكذب»، وعلى «التناقض» في المواقف والتصريحات والأفعال، وأن ما يعرفه الناس عن تاريخ الجماعة وخطابها، هو أقل القليل ويمتاز بالضبابية المقصودة من قبل الجماعة، بينما هذا التاريخ وهذا الخطاب يكون صارماً وصريحاً وحاداً حينما تريد الجماعة مخاطبة أتباع تنظيماتها السرية الخاصة والعسكرية منها على وجه التحديد. كما في كافة العلوم والفنون والشؤون، فإن المتخصص يرى ما لا يراه غيره في علمه أو فنه أو الشأن الذي يعنى به، والأمر في جماعة «الإخوان المسلمين» على ذات المنوال، فمن قرأ أدبيات الجماعة ورصد تاريخها يعرف من شأنها ما لا يعرفها غير المتخصصين فيها وبخاصة أولئك الذين قد تخدعهم المظاهر أو يكتفون بمقابلة فرد من الجماعة أو تواصل معها في مشروع ما ليخرج على الناس مدافعاً عن الجماعة وكأنه يعرفها كما يعرف كفّه، وذلك واحدٌ من أسباب تفشي الجهل بجماعة «الإخوان المسلمين». ثمة مشكلة في تناول الجماعة يواجهها بعض الباحثين من بعض المزايدين، وهذه المشكلة تكمن في الزعم بأنّ الجماعة قد تغيرت في خطابها كما في بنائها التنظيمي، وقد اختارت العمل السلمي المعلن عن وعي شامل واستراتيجية مطلقة، وتخلت عن التنظيمات السرية، وعن العنف وهؤلاء في الغالب من «الإخوان» المستترين الذين يسعون للدفاع عن الجماعة مهما صنعت، ولا يكفي في جدال هؤلاء العلم ودلائله والتحليل وأدواته فحسب بل ثمة أمرٌ شديد الأهمية وبالغ التأثير ألا وهو الشهادات. أعني بالشهادات في هذا السياق تلك الكتب والمحاضرات والمقالات التي يتحدث فيها أعضاء معاصرون من داخل جماعة «الإخوان المسلمين» انشقوا عليها، وهم يتحدثون عنها حديث العارف بالتفاصيل الدقيقة، التي لا يتمكن من هو خارج الجماعة من الإطلاع عليها، وهم يقدّمون بهذا العمل الجليل ذخيرةً مهمةً للباحثين والمحللين تجاه هذه الجماعة والإسلام السياسي بشكل عام. ومن هنا تأتي أهمية كاتب كثروت الخرباوي أو عبدالستار المليجي ونحوهما في هذه اللحظة الراهنة بحيث يتميزون بمعرفة وانخراط في هذه الجماعة تاريخياً ويقدمون فضلاً عن شهاداتهم الخاصة كثيراً من دهاليز هذه الجماعة موثقةً بالتاريخ والأشخاص والأحداث والأفكار، جديدةً في الحقبة التاريخية التي تتحدث عنها ومحدثةً في الأشخاص الذين تتناولهم تفاصيل تلك الشهادات. كتب ثروت الخرباوي كتابين عن الجماعة وعلاقته بها الأول صدر قبل سنتين تقريباً هو «قلب الإخوان: محاكم تفتيش الجماعة»، والثاني صدر نهاية العام المنصرم هو «سرّ المعبد: الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين»، وقد أضرّ بفائدة الكتاب وانتشاره اعتماد الكاتب لطريقة أدبية قديمة كان يستخدمها قدماء جماعة «الإخوان المسلمين»، وهي طريقةٌ فيها استطراد كثير وتشعب غير مفيد مع شيء من التوسع في بعض المفاهيم الفكرية المجردة التي تزيد من ضخامة الكتاب وتقلل فائدته للقارئ غير المتخصص. أحسب أن الأستاذ ثروت الخرباوي لو أعاد النظر في كتابيه وخرج منهما بملخص يقتصر فيه على سرد الأحداث والوقائع والأقوال كما هي بعيداً عن أي تجميلات لغوية أو انطباعات وتأملات شخصية لحظي هذا الملخص بانتشار واسع وفائدة أعم. تجري قناة «العربية» لقاءات متصلة مع الخرباوي في برنامج «الذاكرة السياسية» وقد عرضت منه حلقة أولى يوم الجمعة الماضي، وأحسب أنّ البرنامج إن استطاع استخلاص ما في الكتابين من تجربة الضيف، فسيكون قد قدّم عملاً يسهّل على غير المتخصصين الوعي بتاريخ وفكر جماعة خطرة كجماعة «الإخوان المسلمين».