بقي التوصل لنظام أمني خليجي فعال في منطقة الخليج العربي عقدة كبيرة لدول المنطقة وكذلك للقوى الفاعلة في النظام العالمي. وخاصة أن إقليم الخليج العربي الذي يُعتبر في البعد الاستراتيجي جزءاً من النظام الأمني العربي يشكل الركن الأهم في هذا النظام بما يحتويه من مصادر طبيعية للطاقة من نفط وغاز وصناديق ثروات سيادية هي الأكبر والأوفر في العالم. وبالتالي تكمن أهمية إقليم الخليج العربي في كونه العصب الأساسي في حيويته وتأثيره الاستراتيجي على أمن واستقرار النمو الاقتصادي للنظام العالمي. ولهذا بات أمن واستقرار منطقة الخليج العربي الشغل الشاغل لدولها جميعاً، وكذلك، بسبب البعد الدولي وتجاوزه للإقليمية أصبح موضوع الأمن الخليجي شأناً وهمّاً عالميين. ومن المنظور الاستراتيجي فإن النظام الأمني الخليجي الأمثل يكمن في مشاركة جميع الدول المطلة على الخليج العربي في لعب دور بناء وتأمين أمن وحماية منطقة الخليج العربي، لأن جميع الدول من المفترض أن تكون لها مصلحة في أمن واستقرار منطقتنا. ولكن الواقع يشي باستحالة ذلك حسب النهج والممارسة والتركيبة الحالية للنظامين في العراق وإيران. والعراق بوضعيته الحالية كنظام يتشظى على خطوط صدع طائفية وعرقية ومناطقية وهو ما كرسه الاحتلال الأميركي. ويعيش العراق اليوم الحالة اللبنانية عن طريق لبننته وتقسيمه إلى طوائف وفرق وقيادات طائفية، في ظل مخاوف من تمدد «الربيع العربي» إلى العراق والخشية من حرب أهلية تسرع وتيرتها الحالة السورية المتفجرة والدور الإيراني الذي ملأ الفراغ في بلاد الرافدين. كما أن كثيراً من الملفات مع الكويت من تبعات الاحتلال العراقي لها ما زالت عالقة وغير محسومة، وهذا ما أشار إليه البيان الختامي للقمة الخليجية الأخيرة في المنامة. ويثير التسلح العراقي بأنظمة الأسلحة الأميركية الحديثة من طائرات F-16 ودبابات «إبرامز» مخاوف جيران العراق وخاصة دولة الكويت. وتشكل العلاقة المتشجنة بين حكومة المالكي وبعض دول مجلس التعاون الخليجي عاملاً، ضمن عوامل أخرى، لا يساعد على قبول العراق الحالي ضامناً ولاعباً إيجابياً يسهم في تعزيز أمن واستقرار منطقة الخليج العربي. وهذا الواقع الذي زاد من خلل توازن القوى في منطقة الخليج، دفع إيران بما تملكه من قدرات ومشروع وحلفاء لملء الفراغ الاستراتيجي وتصليب مواقفها استراتيجياً وإيديولوجياً ما عمق الشرخ وزاد من الفرز الطائفي في المنطقة. واستغلت إيران سقوط نظام صدام في العراق لتمارس نفوذاً وحضوراً واضحين في المنطقة الممتدة من غرب أفغانستان إلى شرقي المتوسط مروراً بالعراق واليمن ودول مجلس التعاون الخليجي بمستويات مختلفة. ويتم ذلك عن طريق التدخل والتمترس واللعب على الوتر الطائفي والمذهبي وتجنيد خلايا نائمة وخلايا تجسس تم الكشف عنها في الكويت والبحرين واليمن، ما دفع الرئيس اليمني، ورئيس جهاز الأمن القومي اليمني أو «المخابرات» اللواء علي الأحمدي، لاتهام إيران بدعم الانفصاليين وبعض القوى السياسية اليمنية مالياً ومعنوياً. وبعد سقوط النظام العراقي تحررت إيران من عقدة العراق وسمح لها ذلك بالتدخل لتتجاوز الأنشطة والتدخلات الإيرانية حدود البحر المتوسط عبر حلفائها في العراق وسوريا و«حزب الله» ليصل نشاطها حتى إلى المغرب والسنغال اللتين قطعتا علاقتهما مع إيران. ولكن منذ حراك «الربيع العربي» تغير الوضع مع سقوط القناع الإيراني بتحالف طهران ودعمها الواضح للنظام السوري، وقد تم مؤخراً الإفراج عن 48 إيرانياً يتهمهم الجيش السوري الحر والحكومة الأميركية بأنهم من الحرس الثوري، وكل ذلك يؤكد الدور الإيراني الداعم للنظام السوري، الذي يشكل الاستثمار الأكبر لإيران في المنطقة خلال الثلاثين عاماً الماضية. ولكن أحد المسارات التي بدأت تتبلور في المنطقة هو الاحتقان والفرز الطائفي السني- الشيعي الذي يظهر بوضوح في أكثر من دولة عربية، ومن الواضح أن إيران ليست بريئة من رفع وتيرة الاحتقان الذي نرى تجلياته في نقاشات مجلس الأمة في الكويت وكذلك في العراق من خلال المظاهرات التي تتصاعد في الأنبار والمحافظات السنية، وطبعاً في سوريا ولبنان المنقسم على نفسه، وفي غيرهما من الدول. وهذا مسار خطير ينذر بتقسيم المنطقة على خطوط طائفية، بل وتجزئة وتقسيم بعض الدول على صدع تلك الخطوط. كما أن خلافات إيران مع المجتمع الدولي حول برنامجها النووي وسيناريوهات الحرب وتهديدات طهران المتكررة باستهداف دول مجلس التعاون الخليجي إذا ما شنت الولايات المتحدة هجوماً على إيران وإغلاق مضيق هرمز والمناورات المتعددة والمتكررة وآخرها رداً على بيان دول مجلس التعاون الخليجي في البحرين والذي أكد بلغة وبنبرة عالية وغاضبة: «رفضه واستنكاره لاستمرار التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية لدول التعاون». وطالب «إيران بالكف فوراً ونهائياً عن هذه الممارسات وعن كل السياسات والإجراءات التي من شأنها زيادة التوتر وتهديد الأمن والاستقرار في المنطقة». وطالب البيان الختامي «إيران بالالتزام التام بمبادئ حسن الجوار والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وحل الخلافات بالطرق السلمية، وعدم استخدام القوة أو التهديد بها». و«أكد المجلس أهمية النظر في كافة الوسائل السلمية التي تؤدي إلى إعادة حق الإمارات في جزرها الثلاث». ولكل ما سبق ذكره تعيش منطقة الخليج العربي اليوم حرباً باردة ناقشنا خطورتها وأبعادها في مقالات سابقة. وإذن لا يمكن لأي من العراق وإيران، في ظل المعطيات الحالية، المساهمة بأي دور إيجابي في تشكيل نظام أمني خليجي جديد وفعال يمكنه أن يضم جميع دول الخليج العربي. كما لا يمكن لدول الخليج بمفردها أن تشكل نظاماً أمنياً يصمد ويواجه التحديات الإقليمية المتشعبة. كما لا يمكن لدول الخليج التعويل طويلاً على الحماية الخارجية في ظل تغير طبيعة القوة والاتجاه الأميركي والغربي شرقاً وتراجع أهمية الطاقة الخليجية. ولذلك فالمطلوب هو تفعيل قدرات دول المجلس باتجاه اتحاد خليجي فعال. والسؤال: ما هي المعادلة والاستراتيجية الخليجية الناجحة لنظام أمني خليجي فعّال؟ هذا ما سنناقشه في المقال القادم، إن شاء الله.