ليست الهوية موضوعاً ثابتاً أو حقيقة واقعة بل هي إمكانية حركية تتفاعل مع الحرية. فالهوية قائمة على الحرية لأنها إحساس بالذات، والذات حرة. والحرية قائمة على الهوية لأنها تعبير عنها. والحرية تحرر أي إنها إمكانية لأن يكون الإنسان حراً. الهوية إذن ليست شيئاً معطى بل هي شيء يخلق. لا يشعر بها الإنسان كوعي مباشر. فالإنسان اليومي يوجد أولاً، ويعيش أولاً، ثم يعي ذاته ثانياً. يأتي الوعي الذاتي بعد الوجود البدني، ثم يأتي الوعي بالعالم المحيط. وينشأ التساؤل عن الهوية: من هو؟ ولماذا هو في هذا الوضع الاجتماعي؟ وماذا يعني المحيط السياسي حوله؟ وما هذا الإعلام الصاخب الذي يسمعه؟ وماذا تعني هذه الصراعات السياسية حوله ومحاولة إقناعه أو إغرائه أو حتى شراء صوته للانتخاب إلى هذا الفريق أو ذاك؟ وما هذا الزحام في الطريق والتسابق بالعربات يميناً ويساراً وهو سائر على الأقدام فوق الرصيف الذي «تركن» فوقه العربات أو تقف عليه عربات الباعة الجائلين أو ترسو عليه صناديق القمامة المفتوحة أو المقلوبة أو التي خارجها وحولها أكثر مما بداخلها. لا يجد قوت يومه هو وأسرته. وإذا مرض أحد منهم كيف العلاج وشراء الدواء؟ وأين يرسل أولاده للتعليم إذا ما بلغوا السن القانوني خوفاً من العقاب أو طمعاً في مستقبل أفضل لهم بدلا من تركهم أطفالا للشوارع أو باعة جائلين بين العربات وعلى مفارق الطرق، وتحت إشارات المرور مع العجائز على أرصفة الطريق يحملن الأطفال في البرد القارس أو في الحر القائظ. وقد تتحول الهوية إلى اغتراب. تنقسم الذات على نفسها، وتتحول مما ينبغي أن يكون إلى ما هو كائن، من إمكانية الحرية الداخلية إلى ضرورة التكيف مع الظروف الخارجية بعد أن يصاب الإنسان بالإحباط، والإحباط عكس التحقق، وضعف الإرادة، وخيبة الأمل، تخلٍّ عن الحرية. تشعر بالحزن دون معرفة السبب. وتشعر باليأس والشقاء كما وصف فلاسفة الوجود مثل كيركجارد وهيدجر وسارتر. ثم يسيطر الاغتراب على موضوع الهوية. ويتناوله الفلاسفة منذ هيجل وماركس حتى فلاسفة الوجود المعاصرين مثل سارتر ومارسيل وياسبرز. فالاغتراب هو الأكثر شيوعاً. وهو الأكثر وقوعاً. الهوية حالة مثالية في حين أن الاغتراب حالة واقعية. بل إن بعض الفلاسفة يرى الهوية مجرد افتراض ذهني ميتافيزيقي. في حين أن كل إنسان مغترب بطريقة أو بأخرى. فالاغتراب على درجات من الشدة. والإنسان الطبيعي هو الذي يوجد بين قطبي الهوية والاغتراب. ولا يمكن التخلص من الاغتراب أو على الأقل درجة منه. وقد يؤدي فقدان الهوية أو الاغتراب إلى رديْ فعل متضادين مثل العزلة والانطواء أو الانتشار والعنف. ولما كانت الهوية أصيلة في الوجود الإنساني فإنها تتحقق في أشكال عديدة سواء كانت منطوية أو منتشرة، إلى الداخل أو إلى الخارج. وكلاهما خارج الوجود الإنساني وليسا فيه. كلاهما انحراف عنه وليس تحقيقاً له. فمن يفقد هويته يفقد قدرته على الحركة والنشاط. وتتبخر طاقته التي تحركه ويعتزل الناس في حالة انكماش أو انقباض. وقد يشعر بالضياع لأن الهوية هي الوجود. وقد يشعر بالعدم والخواء والفراغ الذي يحس به الوجوديون مثل سارتر وهيدجر في قولهم الوجود عدم. وقد يجد الإنسان هويته من صنعه، من وضع الخيال، في عالم يحلم به. يريد الغوص فيه وعدم العودة منه. وقد تتحقق الهوية في أشكال أخرى من الانحراف. وعلى عكس الطريق السابق قد تسترد الهوية نفسها خارجها في العالم، في الانغماس في الحياة الدنيا حياة اللهو والترفيه وخاصة إذا توافرت الإمكانيات المادية. وهي حالة الترفيه من أجل المساعدة على نسيان الهوية الضائعة، واستعاضة الخارج بالداخل. وقد نشأت طبقة جديدة من الشباب بفنونهم لهذا الغرض، ولذلك انتشرت وجهات الترفيه في الأحياء والمدن الجديدة. تزدحم بمجموعة من شباب الطبقة الجديدة. يجدون فيها هوية بديلة. معظمها أسماء أجنبية بالفرنسية والإنجليزية والإسبانية، لمقاهٍ ومطاعم ومحال تنتمي إلى ماركات عالمية. وحديث «الجارسونات» باللغات الأجنبية. والأسعار على مستوى الأسعار في الخارج، لا إشكال فيها. فالقدرات الشرائية متوافرة. وقد يصرف الشاب في ليلة واحدة ما يصرفه العامل في شهر واحد. فإذا زادت الإمكانيات ولم يتسع الخارج المحلي اتسع نطاق النشاط إلى المجال الدولي من أجل البحث عن هوية بديلة في الخارج تصل إلى حد تبني الجنسية الجديدة، فيتحول إلى مواطن البلد البعيد الذي هاجر إليه. فلا هو يستطيع أن يكسب هوية جديدة من بلد الهجرة ولا هو يستطيع أن ينسى هويته السابقة، البلاد المهجورة. ويظل يعيش مع مواطنيه الأصليين. يسكن معهم وفي أحيائهم. يتناول مأكولاته الشعبية، ويتحدث لغته الوطنية. ولا يكتسب تماماً لغة بلاد الهجرة. ولا يتأقلم مع عاداتها وتقاليدها حتى لو تزوج منها، وحاول الاندماج فيها. إذ تستعصي الهوية الجديدة عليه لأنها تقوم على أساس يرفض قدوم الدخيل إليه. وتتكون وسط المدن الأوروبية أو على هوامشها الأحياء العربية أو الهندية أو الباكستانية أو الصينية أو الآسيوية حتى لا تغترب الهوية ويعيش المواطن وكأنه بين أهله وفي وطنه. لم يفارقهم ولم يغادره. ويكون المهاجرون عرضة للاضطهاد في أي مد عنصري يميني نازي جديد. يدعو إلى الحفاظ على الشخصية الوطنية وحمايتها من الدخلاء، المآذن، والمنقبات والحجاب، والقاذورات في الطرقات، والبيع في الشوارع والميادين بعد صلاة الجمعة والأعياد، وتعبئة الجو بروائح التوابل الشرقية التي تجذب البعض، وتنفر البعض الآخر. وفي الخارج تزداد الهوية الأصلية انغلاقاً دفاعاً عن النفس كرد فعل طبيعي للأقلية تجاه الأغلبية. وتظهر الحركات المتشددة لدى المهاجرين وهم وسط الحضارة الغربية، حضارة الحداثة. ويزداد التمسك بمظاهر الهوية في الشكل والملبس. وكما قيل: إذا أراد الإنسان أن يكون اشتراكياً فليذهب إلى باريس. وإذا أراد أن يكون رأسمالياً فليذهب إلى موسكو. ويقال أيضاً إذا أراد الإنسان أن يكون سلفياً فليذهب إلى الغرب وإذا أراد أن يكون تقدمياً فليأت إلى بعض بلاد العالم الإسلامي. فكل شيء يُعرف بنقيضه. وبدلاً من تمثل الحضارة الغربية يبدأ رفضها. وهو ما سماه المصلحون الحضارة المادية. وحاولوا نقده وبيان معارضته لكافة قيم الحضارة الروحية مثل الحضارة الإسلامية. وهو ما نقده فلاسفة الغرب أنفسهم مثل برجسون وهوسرل وشيلر ورسل وتوينبي. وينشأ الاستقطاب الشديد بين السلفي والعلماني، بين الدولة الدينية والدولة المدنية. وهو في اللاشعور لدى المتشددين كأنه استقطاب بين الإيمان والكفر، بين الهدى والضلال، بين أهل الجنة وأهل النار. وقد ظهرت الهوية السلفية منذ القرن الثامن عشر , وعادت السلفية إلى الازدهار بعد سقوط الخلافة العثمانية. وانتشر منهج النص. واتحدت سلطة النص مع السلطة السياسية. وأعطيت الأولوية للواجبات على الحقوق، وأصبح الدين وكأنه يعني بالضرورة القمع والمنع والزجر والحرام، والتحريم والتخويف. فيمنع قدرات الإنسان من التجلي. وتكون الهوية مفروضة عند كل الناس من يقبلها ومن هو غير ذلك، كالخاتم الخارجي الذي يلصق الجسم فيطبعه بطابعه.