أُنيرت الشموع في الكنائس، وارتفعت الحناجر بالدعاء، وانحدرت الدموع من المآقي بكافة أرجاء فنزويلا من أجل «تشافيز». ومن لا يعرف هذا الرجل، فهو الرئيس الفنزويلي البالغ من العمر 58 عاماً، والذي حكم بلاده لمدة ثلاثة عشر عاماً حتّى سقط في براثن مرض السرطان الخبيث. ولم يزل تشافيز ممداً بغرفة العناية المركزة في أحد مستشفيات كوبا، بعد أن أجرى له الأطباء عملية جراحية خطيرة أدّت إلى إصابته بمضاعفات في الجهاز التنفسي. هذا الرئيس المحبوب، الذي جاء من بيئة فقيرة، وعاش طفولته في كوخ صغير بالريف، ليُحالفه الحظ ويُصبح اليوم أحد أشهر رؤساء العالم، لم ينسَ قط بيئته المعدمة التي قدِم منها، كما يفعل الكثير من المسؤولين الذين ينحدرون من أسر بسيطة. ولم يتنكّر لأصوله البسيطة بعد أن اعتاد النوم على فراش وثير، وأكل أطيب الطعام، بل قام بإصلاحات جذرية تعود بالنفع على شعبه مع وصوله لكرسي الرئاسة. وأخذ على عاتقه رفع دخول الفقراء الذين يُشكلون الأغلبية بوطنه. لم يستغل منصبه لنهب ميزانية الدولة حيث تُعتبر فنزويلا رابع دولة في تصديرها للنفط. ولم يسع لتأمين مستقبل أقاربه. ولم يمنح أصدقاءه المناصب العليا. ولم يغضّ الطرف عن الفساد في بلاده ليقضي على الأخضر واليابس في زمن سيطرت فيه المصالح الخاصة، وغابت الضمائر الشريفة، وشاع شعار، اغتنم الفرصة وأنهب كل شيء حولك، وأجعل بلدك أرضاً جدباء لا تنفع للعيش الآدمي! تسّرب إلى دواخلي شعور بالغيرة، وأحسستُ وأنا أطالع تاريخ هذا الرجل، أنني أمام بطل من أبطال ألف ليلة وليلة. أو شخصية «روبن هود» الذي سخّر حياته لنصرة المظلومين ومساعدة المعدمين. هل سيُسدل الستار على الفصل الأخير لحياة تشافيز الذي ما زال مصيره غامضاً، أم سيُصارع الموت ويعود لشعبه معافى ويتولّى كرسي الرئاسة للمرة الثالثة؟! مع قيام ثورات «الربيع العربي»، غابت الوجوه التي حكمت بلدان عربية عدّة عقود بانتخابات هزلية! بسببها انكسرت قاعدة توريث الرؤساء لأبنائهم! لكن هل بالفعل حققت ثورات «الربيع العربي» لشعوبها ما ترجوه منها في بناء مجتمعات ديمقراطية حقيقيّة؟! لماذا لا يُوجد لدينا نموذج فريد مثل الرئيس الفنزويلي في عالمنا العربي إلا ما ندر؟! لماذا دوماً المحسوبيات تطغى على أولويات بعض مسؤولينا كأنها لعنة متوارثة على أرضنا؟! لماذا الفساد متورط في عالم السياسة لدينا، كأن هناك حلف دائم بينها وبين أي مسؤول يجلس على كرسي وزارة أو ينجح في تولّي منصب كبير؟! القاصي والداني هلل لثورات «الربيع العربي»، ولكن إلى اليوم لم تتبلور هذه الثورات التي أثلجت قلوب الكثيرين وفتحت طاقات الأمل من جديد أمامهم! لم يجدوا عند من نصّبوا أنفسهم أوصياء على هذه الثورات ما يُبشّر بالخير! كأنهم استبدلوا أنظمتهم الديكتاتورية بأنظمة أشد فتكاً وشراسة بهم! وكأن الذين يصلون للمناصب العليا يُصابون بعدها بحالة من فقدان الذاكرة حيال كل شيء! قليلاً ما نُشاهد الجماهير العربية تخرج لوداع رؤسائها بقلوب مقهورة على فراقهم! هي في العادة ترى الصورة مقلوبة! كأن قدرها أن تحمل آلامها وانتكاساتها إلى مثواها الأخير! كم أتمنى أن أرى نماذج مكررة من شافيز بأوطاننا العربية. رئيس يضع نصب عينيه أن يُنقّي بحار بلاده من الشعب القاتلة، ويزرع أرضها بالنباتات الخضراء لتطرح ثمارها ويستفيد منها الجميع. يظهر بأننا في ثقافتنا اعتدنا على تأليه الأشخاص والتغاضي عن انحرافهم الأخلاقي ومطامعهم الذاتية، متناسين عمداً بأن شعوب الأرض كما تبني الحضارات، هي التي تصنع بيدها الجبابرة والطغاة!