خلال السنوات العشر الماضية برزت الهند على الساحة العالمية كمركز قوة اقتصادي ذي شأن. ومع النمو الاقتصادي أقيمت مشروعات البنية الأساسية والمشاريع التنموية بأعداد ضخمة خصوصاً في المجال العقاري وذلك في كل مدينة تقريباً من المدن الهندية الكبرى. كما ظهر عدد كبير من المدن الصغيرة والمناطق الراقية التي تضم في جنباتها العديد من المنازل والفيلات الفاخرة في عاصمة البلاد والمناطق المحيطة بها. ونتيجة لذلك كله شهدت نيودلهي نمواً متسارعاً في أعداد السكان، حيث ارتفع ذلك العدد كما تشير الإحصائيات الرسمية من 14 مليوناً إلى 20 مليوناً خلال السنوات الخمس الأخيرة فقط. ومن ضمن العوامل الرئيسية التي تقف وراء الزيادة المستمرة في عدد سكان نيودلهي ذلك الخاص بالهجرة واسعة الناطق لعمال البناء والعمال غير المهرة من المناطق الزراعية، خصوصاً تلك الواقعة في الولايات المجاورة للعاصمة. فهؤلاء العمال ينتقلون للعاصمة بحثاً عن العمل، وعن فرص أفضل تاركين عائلاتهم وراءهم في القرى ويقومون بتحويل جزء كبير من الأجور التي يحصلون عليها إلى عائلاتهم ويعيشون كعزاب في مساكن قذرة تقع في أحياء متناثرة في أطراف المدينة تكاد تكون محرومة من كافة الخدمات الأساسية. وبعد أن يعتاد هؤلاء العمال على وظائفهم، وعلى الحياة في العاصمة، ويتمكنون من ادخار بعض المال يقررون العيش بصفة دائمة فيها، دون أن تكون لديهم أوراق هوية سليمة، ودون أن يكون لدى أجهزة الشرطة، والأجهزة الحكومية الرسمية معلومات عنهم. وهم في معيشتهم الجديدة الهامشية في المدينة يتحررون من كافة القواعد والأعراف الاجتماعية التي كانت تطبق عليهم في قراهم أو مدنهم الصغيرة. ونظراً لعدم توافر الأجواء المريحة والتسهيلات اللازمة في الأحياء العشوائية التي يعيشون فيها، فإنهم يتحولون في أحيان كثيرة إلى مجرمين، إو إلى عناصر معادية للمجتمع، وكارهة له. إذن يمكن القول إن النمو السريع، والتقدم، والتنمية تجلب عادة معها هذا النوع من الشرور الاجتماعية. منذ ثلاثة أسابيع، هز حادث إجرامي شنيع ارتكبته مجموعة ضالة من تلك العناصر المعادية للمجتمع ليس فقط في العاصمة نيودلهي، وإنما الأمة الهندية بأسرها. وخلال الأسابيع التي انقضت منذ وقوع تلك الجريمة انخرطت جميع المدن الهندية الرئيسية والمدن الصغيرة تقريباً في حملة انتقاد وغضب شديدة موجهة ضد تلك العناصر الإجرامية. ففي هذا الحادث الرهيب لم يتم فقط اغتصاب فتاة شابة تبلغ من العمر 23 عاماً تدرس الطب من قبل ستة رجال، وإنما تعرضت تلك الفتاة إلى ضرب وحشي من قبل تلك المجموعة من الوحوش البشرية في حافلة متحركة. وتحت الضغط الناتج عن تجمع حشود ضخمة واحتجاجات حاشدة أمام البرلمان الهندي، وأمام دار إقامة رئيس الجمهورية قررت الحكومة الهندية نقل الفتاة الضحية وعائلتها إلى مستشفى مشهور في سنغافورة للحصول على أفضل علاج ممكن ولكن الفتاة المسكينة لم تتمكن من التغلب على جراحها والبقاء على قيد الحياة على الرغم من العمليات الجراحية الأربع التي أجريت لها، وقضت نحبها. وقد هزت الوحشية التي ارتكبت بها الجريمة البلاد، وكان لها تأثير عميق على الحالة النفسية للأمة الهندية بأسرها. وشهد البرلمان الهندي مشاهد صاخبة، كما تدفق الطلاب والمحامون والمهنيون والناشطات من النساء على شوارع نيودلهي للمطالبة بالعدالة للفتاة، وباتخاذ إجراءات حازمة من جانب بالحكومة لجعل مدينة نيودلهي أكثر أماناً. ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، بل رأينا أن الطبقة الوسطى الهندية التي يعرف عنها أنها لا تميل إلى التظاهر والاحتجاج وهي تنفجر في موجة من الغضب العارم والإحباط الشديد بسبب حادث الاعتصاب الجماعي البشع الذي أظهر بجلاء، وعزز، بأسوأ طريقة ممكنة الاعتقاد السائد بافتقار النساء إلى الأمان في العاصمة الهندية. وفي الوقت الراهن يناقش الناس فشل الإجراءات التي تتبعها الشرطة في الحد من الجرائم، ويطالبون بقوانين أكثر صرامة لردع مرتكبي عمليات الاغتصاب، وغيرها من الجرائم التي ترتكب ضد المرأة. وقد تم القبض على الرجال الستة الذين ارتكبوا هذه الجريمة البشعة خلال 24 ساعة ووجهت إليهم تهمة القتل والاغتصاب الجماعي ضمن قائمة أخرى طويلة من التهم. وإذا ما أدينوا فإنهم سيواجهون عقوبة الإعدام. والحادث في مجمله عزز من سمعة نيودلهي باعتبارها« عاصمة الاغتصاب» في الهند كلها كما يطلق عليها. فوفقاً لإحصائيات الشرطة ازداد عدد حالات الاغتصاب المبلّغ عنها من 459 حالة عام 2009 إلى 568 حالة عام 2011 . أما عام 2012 فقد شهد 653 حالة اغتصاب وهو معدل يفوق معدل حالات الاغتصاب أي مدينة من المدن الكبيرة في البلاد. ويمكن القول إن كل امرأة في نيودلهي تقريباً لديها الكثير مما يمكن أن ترويه عن التعليقات الجنسية البذيئة التي تصك أذنيها كل يوم وعن تعرضها للتحرش بصفة مستمرة في المواصلات العامة. وعلى الرغم من أن الغضبة الشعبية العامة ضد العمل الإجرامي لن تؤدي إلى تغيير فوري في مواقف أصحاب العقليات الشريرة تجاه المرأة، أو تجاه ارتكاب جريمة الاغتصاب بشكل عام، فإن ما لا شك فيه أن تلك الغضبة العارمة كان لها جانب إيجابي، وهي أنها أطلقت نقاشاً عاماً، ودعت إلى قدر من مراجعة النفس، يمكن أن يؤديا معاً إلى أحداث تغيير في تلك المواقف- حتى لو كان بطيئاً. كذلك، دفعت الغضبة الشعبية الحكومة إلى التحرك والفعل، حيث قامت بالإعلان عن مجموعة من الإجراءات منها فحص سوابق سكان العشوائيات، وتعزيز نقاط التفتيش الثابتة والمتحركة، وتسيير المزيد من دوريات الشرطة في المناطق الفاصلة بين حدود الولايات المختلفة. كما قررت كذلك عقد جلسات يومية للمحكمة التي تضطلع بمحاكمة المتهمين لتسريع عملية عقابهم حتى يكونوا عبرة لمن لا يعتبر، وتهدئة الشارع الذي يغلي غضباً. في الوقت نفسه، يتم الآن تعيين شرطيات للعمل في مختلف أقسام الشرطة، كما تجرى مراجعة للقوانين المتعلقة بالاغتصاب، وارتكاب العنف ضد المرأة وتضمينها عقوبات مشددة. كل هذه تغييرات مرحب بها، ولكن ما لم تتغير المواقف المضادة للمرأة، فإنه سيكون من الصعب إحداث أي تغييرات عميقة في مجتمع تكافح فيه المرأة من أجل الحصول على عمل والعيش بكرامة. د. ذِكْرُ الرحمن مدير مركز الدراسات الإسلامية- نيودلهي