رغم مرور سنوات وعقود طويلة على الحرب الأهلية الأميركية التي اندلعت في ستينيات القرن التاسع عشر، فإنها ما زلت تستثير انتباه الأميركيين, وتدفع كتابهم في كل مرة لمعاودة الكتابة واستحضار إحدى أحلك صفحات التاريخ الأميركي. ويبدو أن كثرة الكتابات التي تناولت الحرب الأهلية الأميركية، من حيث الأسباب والتداعيات، لم تشبع نهم الأميركيين لتقليب أحداث التاريخ واستخراج وقائع جديدة، أو إثارة أبعاد وزوايا غير مطروقة في سرد أحداث الحرب، وهذا ما يفعله الكاتب والصحفي "ديفيد فان دريل" الذي عمل مع صحيفة "واشنطن بوست" ويعمل حالياً مع مجلة "التايم"، في كتابه الأخير"الصعود إلى العظمة... إبراهام لينكولن وأخطر سنة في أميركا"، الذي يستعيد فيه الحرب الأهلية الأميركية وشجونها مسلطاً الضوء بالخصوص على أحد أبطالها, وهو الرئيس إبراهام لينكولن الذي خاض الحرب وأصر عليها، رغم الصعوبات والمشاكل الكثيرة، وثبت على موقفه الرافض للعبودية، أو حتى تمتيع الولايات الجنوبية المتمردة باستثناء الإبقاء على العبيد لإدارة مزارع القطن الشاسعة التي يملكونها، متمسكاً بحرية العبيد واستفادتهم من حقوقهم كاملة. وفي سرده للأحداث التي ميزت تلك المرحلة الحاسمة من التاريخ الأميركي اختار المؤلف التركيز على بعض السنوات التي شهدت وقائع مميزة وفريدة، ومن تلك السنوات 1862 التي يعتبرها السنة الأهم في مسيرة الحرب الأهلية، لما تخللتها من معارك تعد الأكثر شراسة بين القوات الفدرالية ونظيرتها الكونفدرالية، كما شهدت توسيعاً غير مسبوق لصلاحيات الرئيس، ومنحه سلطات واسعة لقيادة المعارك، وضمان تماسك قوات الشمال، بالإضافة إلى التوقيع على إعلان التحرير المبدئي. ثم يتطرق الكاتب إلى ما تلا تلك السنة من وقائع لا تقل أهمية، مثل دخول قرار تحرير العبيد حيز التنفيذ في 1863، وامتناع كبار إقطاعيي الجنوب عن تطبيقه، الأمر الذي دفع لينكولن إلى تسيير قواته إلى الجنوب وصدامها مع الولايات الجنوبية التي حشدت قواتها وجندت المزارعين والمواطنين لخوض المعارك، بعدما تطورت المطالب من طبيتها الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تروم في البداية الحفاظ على نمط حياة زراعي في الجنوب قائم على الأرض وزراعة القطن، وعلى تقاليد اجتماعية مبنية على الإقطاع والرأسمال الزراعي، إلى مطالب سياسية تنادي بالانفصال التام عن الولايات المتحدة. ثم جاءت سنة 1864 ،عندما رفض لينكولن تأجيل الانتخابات الرئاسية، معتبراً أن ذلك سيكون بمثابة انتصار للجنوب، إلى أن اتخذ الرئيس قراره التاريخي في 1865 بتمرير التعديل الدستوري رقم 13، والقاضي بإلغاء العبودية وطرحه على الكونجرس الذي أجازه. لكن الكاتب يقول، إن الاتفاق على سنة بعينها باعتبارها الأهم في الحرب الأهلية ليس بالأمر الهين، نظرا لتضارب الآراء والتقييمات، ومنها مثلا رأي "ويليام سيوارد"، حاكم ولاية نيويورك وأحد الموالين للينكولن طوال سنوات الحرب، الذي اعتبر أن سنة 1861 كانت الأهم بين سنوات الصراع الأهلي لأن الرئيس اتخذ قراراً صعباً ومثيراً للجدل بتعليق العمل بالحريات المدنية لضمان تقدم القوات الفدرالية في ولاية ميريلاند الجنوبية المعادية للشمال وحماية واشنطن، وهو قرار كان ضرورياً، يقول الكاتب، لمنع محاكمة العسكريين وإعدامهم. وفيما كان لينكولن يخوض الحرب، إلى جانب جنرالاته ويشق طريقه في الجنوب متعقباً القوات الكونفدرالية، وكان الإصرار يزيد يوماً بعد يوم بشأن إلغاء العبودية، برزت شخصيات كبرى أيضاً إلى جانب الرئيس لتضطلع بدور حيوي في رسم مسيرة الحرب، مثل الجنرال "يوليسيس جرانت" الذي لم يحظ ربما بالاعتراف والتقدير الجديرين به من قبل الكتاب. فقد أسهم هذا العسكري البارز بقسط وافر في تحقيق النصر مطلع 1862، وربما ذلك راجع، يقول الكاتب، إلى قراره الخاطئ باستبعاد اليهود من منطقة قيادته، وهو أمر أوقفه لينكولن. كما يخصص المؤلف جزءاً من الكتاب للحديث عن المواقف الشخصية والظروف الخاصة والعصيبة أحياناً التي اجتازها لينكولن، وهي ظروف لم تفت في عضده ولم تؤثر على رباطة جأشه، ما يجعله من الشخصيات السياسية الأكثر صلابة في التاريخ الأميركي، ففي خضم الصراع السياسي بينه وبين الكونجرس من جهة لتمرير قرارات ضرورية للاستمرار في الحرب وتصديه لبعض المؤامرات الخارجية من قوى أوروبية انحازت للولايات الجنوبية، فقد لينكولن أحد أبنائه، كما تدهورت الصحة النفسية لزوجته التي سارت في طريق الاضطراب العقلي، لكن رغم حالة الإرهاق الشديد التي عاناها الرئيس الأميركي وقتها، واستعانته بموظفين جدد علهم يخففون عليه العبء، كان يصر على كتابة الرسائل إلى أمهات القتلى من الجنود بنفسه، متحملاً ما تضمه من ألم وحسرة على الدم الأميركي المراق. زهير الكساب الكتاب: الصعود إلى العظمة... إبراهام لينكولن وأخطر سنة في أميركا المؤلف: ديفيد فان دريل الناشر: هنري هولت تاريخ النشر: 2012