في إطار اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في نوفمبر مع حركة «حماس»، رفعت إسرائيل جزئياً حصارها على قطاع غزة، حيث سمحت على الأقل بدخول مواد البناء إلى المنطقة التي استهدفتها الضربات الجوية الإسرائيلية. والأكيد أنها خطوة وحيدة إلى الأمام تنهي حظراً دام خمس سنوات على مثل هذه المواد؛ غير أنه من دون تقدم بخصوص تسوية هذا النزاع برمته، فإنه من شبه المؤكد أن الهجمات الصاروخية أو الانتحارية الفلسطينية والردود الإسرائيلية العنيفة ستُستأنف. وإذا كان الماضي مفيداً ومؤشراً، فإن حتى أولئك الذين قد ينتقدون هذه الهجمات الإسرائيلية باعتبارها «غير متناسبة» سيسارعون إلى القول: «بالطبع، إن لدى إسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها». غير أن إسرائيل لا تدافع عن وطنها ضد هجوم غير مبرر، وإنما «تدافع» عن حق غير موجود في مواصلة احتلالها (المباشر وغير المباشر) وقمع الفلسطينيين، وهذا هو ما يؤدي إلى هجمات فلسطينية من غزة. الثمانية أيام من القصف الإسرائيلي والضربات الجوية على غزة في نوفمبر الماضي، كانت بمثابة استمرار –وإن على نطاق أصغر بكثير– لـ«عملية الرصاص المسكوب»، وهي الهجمات الإسرائيلية التي بدأت في أواخر ديسمبر عام 2008 واستمرت على مدى ثلاثة أسابيع. فالأمس مثل اليوم ، بررت إسرائيل وأنصارها «الرصاص المسكوب» باعتبارها استعمالا مشروعاً للقوة في الدفاع عن النفس، بقصد إنهاء هجمات «حماس» الإرهابية على سكان إسرائيل المدنيين. والحال أنه بعد «الرصاص المسكوب»، خلص عدد من تحقيقات منظمات حقوق الإنسان الرئيسية - ومن بينها تحقيق «لجنة جولدستون»، و«العفو الدولية»، و«هيومان رايتس ووتش» – إلى أن هجمات إسرائيل العشوائية وغير المتناسبة ضد سكان غزة وبنياتها الاقتصادية والاجتماعية تشكل جرائم حرب. غير أنه في الوقت نفسه، لم تسع أي من هذه المنظمات إلى دحض ادعاء إسرائيل بأنها تقوم بالدفاع عن نفسها. وبشكل عام، تجادل إسرائيل بأنه رغم أنها أنهت احتلال غزة في عام 2005، فإن الهجمات الإرهابية الفلسطينية على المراكز السكانية الإسرائيلية استمرت، وبالتالي فإنها تبرر حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. غير أن حجتهم باطلة من عدة نواح. ذلك أنه رغم أن إسرائيل انسحبت من مستوطناتها اليهودية من غزة في عام 2005، فإنها واصلت احتلالها غير المباشر للقطاع من خلال حصاريها الأرضي والبحري اللذين أعقبا الاستيلاء العنيف على القطاع من قبل «حماس» في عام 2007. فإسرائيل مازالت تمارس سلطة كبيرة جداً على اقتصاد غزة ومياهها وكهربائها واتصالاتها ونقلها. ومن بين أمور أخرى، ترفض إسرائيل السماح لغزة بمطار أو ميناء أو معبر تجاري يشتغل على حدوها مع مصر، مقلصة بذلك تجارة غزة مع العالم الخارجي بشكل جذري. السبب المعلن يتعلق بأهداف أمنية، ولكن النتيجة هي تزايد معاناة الغزيين العاديين، ومن ذلك التقييد الشديد لتنقل الأشخاص والسلع في غزة وخارجها، وواردات غير كافية من المياه المستعملة في الشرب والسقي، ومنع المزارعين من الاشتغال في حقولهم وحصد محصولها في المناطق الحدودية، والتحرش بمراكب الصيد الغزية. وإضافة إلى ذلك، استمرت إسرائيل في اغتيال نشطاء ومناضلين فلسطينيين ومهاجمة المؤسسات الحكومية والشرطية بشكل منتظم، إضافة إلى نظام توليد الطاقة الكهربائية والطرق والجسور والمزارع وبساتين الزيتون – كما أن الكثير من قنابلها وشظاياها تسقط على المدارس وسيارات الإسعاف والمستشفيات، سواء عن قصد أو غير قصد. وعليه، فإنه لا يمكن القول على نحو جدي أن الهجمات الإرهابية الفلسطينية على إسرائيل –وإن كانت خاطئة من الناحية الأخلاقية - «غير مبررة»، أو أنه لا علاقة لها بهذا التاريخ. أما السبب الثاني لضعف حجة الدفاع عن النفس، فهو أنه حتى في حال أنهت إسرائيل احتلالها وقمعها لغزة حقاً، فإنها لم تنه احتلالها المباشر للقدس الشرقية ومعظم الضفة الغربية. وبدلا من ذلك، فإنها عملت على توسيع عدد المستوطنات اليهودية والاستيلاء على الأراضي في تلك المناطق. والحال أن غزة ليست بلداً أو شعباً منفصلاً من الضفة الغربية، واتفاق أوسلو الإسرائيلي الفلسطيني لعام 1993 يقول بوضوح إن غزة والضفة الغربية تمثلان «وحدة ترابية واحدة». وبالتالي، فإن سكان غزة لديهم حق مقاومة الاحتلال والقمع. أما تصديق خلاف ذلك فيشبه تصديق أنه لو أن البريطانيين انسحبوا من نيوجرسي في سبعينيات القرن الثامن عشر واستمروا في احتلال المستوطنات الأميركية الاثنتى عشرة الأخرى، فإن سكان نيوجرسي لن يعود لديهم الحق في حمل السلاح لدعم الاستقلال الأميركي. أما العيب الثالث في حجة الدفاع عن النفس الإسرائيلية، فهو أن الأخلاقيات الغربية ترفض استعمال القوة إلا إذا تم استنفاد كل الوسائل السلمية. والحال أن إسرائيل رفضت مراراً وتكراراً التفاوض حول هدنات طويلة المدى مع «حماس»، بل إنها نقضت اتفاقات سابقة. وإذا كانت «حماس» مازالت ترفض الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، فإن ثمة مؤشرات مهمة منذ عام 2009 على أنها باتت مستعدة للذهاب إلى أبعد من وقف إطلاق النار والانضمام إلى السلطة الفلسطينية الأكثر اعتدالا في الضفة الغربية في دعم تسوية سلمية للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني تقوم على حل الدولتين. ورغم أن موقف «حماس» غامض، ومتناقض في بعض الأحيان، فإن هذا لا يبرر رفض إسرائيل لمجرد التفاوض مع حماس بقصد بحث إمكانيات السلام. والواقع أنه طالما استمر الاحتلال والقمع والتعنت الإسرائيلي، فإن إسرائيل ليس لديها أي حجة شرعية أو مقنعة للدفاع عن نفسها ضد هجمات فلسطينية غير مبررة. ولوقف تلك الهجمات وجعل وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه العام الماضي دائماً، عليها أن ترفع حصارها بشكل كلي وتجلب «حماس» إلى طاولة المفاوضات. ــ ـ ـ ـ ــ ـ ـ ـــــــــ جيرومي سلايتر أستاذ فخري للسياسة الدولية والسياسة الخارجية الأميركية والأمن الدولي بجامعة نيويورك ستايت ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»