المدن خطوات الحضارة البشرية عبر التاريخ؛ أولُ المدن «أريدو» و«أوروك» و«أور» و«بابل»، وكلها في العراق، وقد أعطت البشرية الكتابة، وتخطيط المدن، والرياضيات، وعلم الفلك، والشرائع القانونية. مدينة أثينا أعطت الفلسفة، والألعاب الأولمبية، وبغداد أعطت عصر النهضة العلمية العربية الإسلامية، وفلورنسا أعطت عصر النهضة الأوروبية، وبرمنجهام أعطت الثورة الصناعية، وأحدث المدن، وهي «مصدر» في الإمارات العربية المتحدة، قد تعطي البشرية أول مدينة مستدامة في التاريخ. هل هذا سبب التساؤلات الكبيرة التي تثيرها في الأوساط الأكاديمية العالمية؟ الملاحظة الأساسية على مدينة «مصدر» أنها «مرتَّبة» و«ذكية»، والمدن ينبغي أن تكون «عشوائية» و«خبيصة» حسب ريتشار سينيت، أستاذ علم الاجتماع في «كلية لندن للاقتصاد». وفي مقالة في «الجارديان» يأخذ الأكاديمي البريطاني على المدن الذكية تخطيطها بواسطة الكمبيوتر، الذي يحدد مواضع المكاتب والحوانيت بشكل كفء للغاية، ويعيّن أين ينبغي أن ينام الناس، وجميع جوانب حياتهم اليومية. ويرسم التخطيط الأساسي للمدينة نشاطها بشكل شامل، ويرصد مركز التسيير قيام المدينة بوظائفها، ويضبط عملها وفق جداول محددة. هذا يجعل سكان المدينة مستهلكين لخيارات موضوعة لهم، وفق حسابات مسبقة لأماكن التبضع، أو مواعيد مراجعة الطبيب، و«ليس هناك حفز عبر التجربة والخطأ لمواطني المدينة الذين يتحولون إلى مستهلكين لهم الاختيار من قائمة الخيارات، وليس إنشاء قائمة الخيارات نفسها»، والمطلوب، حسب رأيه «مدينة تعمل بشكل جيد، لكن أن تكون مفتوحة للتغيرات، واللايقين، والخبيصة، وهذه هي الحياة الحقيقية». ومشكلة الحياة الحقيقية حاجتها إلى ثورة معمارية. فأكثر من نصف سكان العالم يعيشون حالياً في مدن يزداد عدد سكانها بمعدل خمسة ملايين شخص شهرياً. و«إذا أردنا الموازنة بين حاجاتنا للطاقة، وما يمكن إنتاجه بشكل نظيف عن طريق الطاقة المتجددة، فإننا نحتاج إلى ثورة في مواصفات البناء، وأن يرافق ذلك تجديد الهياكل الارتكازية للنقل». ذكر ذلك نورمان فوستر، الذي وضع التخطيط الأساسي لمدينة «مصدر»، والمشهور بمنشآته المعمارية حول العالم، وبينها مصرف HSBC في هونج كونج، والبرلمان الألماني «الرايخشتاغ» في برلين، وعمارة «الخيارة» وسط لندن، والتي تشبه بتصميمها الفريد منارة مستدقة الرأس. قال فوستر إنه استوحى المدن التقليدية العربية في تخطيط مدينة «مصدر» وهندستها المعمارية. «شوارع ضيقة، ونوافذ مظللة، وحيطان خارجية، ومماشي، وبنايات سميكة الجدران، وباحات داخلية، وأبراج للريح، ونباتات، وعلى العموم مدينة للتمشي». و«مصدر» التي تقع على مسافة 17 كيلومتراً من مركز أبوظبي ليست مدينة بالمعنى المتعارف عليه للمدن، بل مدينة نموذجية تستخدم أحدث التكنولوجيات في تأمين الطاقة المتجددة، وتوفر أرقى نوعية للمعيشة، وبيئة للعمل بأقل استهلاك ممكن لغازات الكربون، وهي تبدو من جانب، كحاضنات العلوم والتقنية القائمة في بلدان عربية عدة، تحتضن الشركات العاملة في صناعات الطاقة البديلة والعمران، لكنها تختلف عن الحاضنات التقليدية في أنها تنتج نفسها بنفسها كنموذج عامل لمدن المستقبل. و«مصدر» ليست منقطعة الصلة تماماً بالبيئة المحيطة، حيث يتيح اتجاهها الشمالي الغربي مرور نسائم الليل العليلة التي تخفف من حرارة رياح النهار، وتفصل المتنزهاتُ الخضراء بين الأبنية لالتقاط وتوجيه النسائم الباردة إلى قلب المدينة، والتقليل من أشعة الشمس، ونشر برودة الواحة المنعشة عبر المدينة كلها. وتقوم «مصدر» التي تبعد نحو ساعتين بالسيارة عن «الربع الخالي» كواحة ظليلة قد لا تضاهي «ليوا» في الإمارات، التي تعدُ أكبر واحات شبه الجزيرة العربية، إلا أنها يمكن أن تلد الواحات، حيث تتوافر الفرص والإمكانات. وهل تصبح «مصدر»، المصدر في التمدين؟ يتطلع العالم بحثاً عن الجواب إلى خمسة مؤتمرات وقمم عالمية متداخلة تعقد في «مصدر» هذا الأسبوع، ويبلغ عدد المشاركين فيها 30 ألفاً من 150 بلداً، «المؤتمر العام للوكالة الدولية للطاقة البديلة»، و«القمة العالمية السادسة لطاقة المستقبل»، و«القمة العالمية للمياه»، و«الاجتماع السنوي الخامس لجائزة الشيخ زايد للطاقة المستقبلية»، و«المؤتمر العالمي للطاقة البديلة في أبوظبي». تُعقدُ المؤتمرات الخمسة تحت خيمة «أسبوع أبوظبي للاستدامة». والمدن، خلافاً للتصورات السائدة الخاطئة، حاضنات للتعاون، خصوصاً في إنتاج المعرفة التي تعتبر أهم إبداعات البشر، فالأفكار تتدفق بيسر من شخص إلى شخص في الأروقة الكثيفة للمدن. و«مصدر»، كالعديد من المدن التي أنشأها العرب زمن الفتوحات الإسلامية حول العالم، حلم وحكمة سكان الصحراء. ينتبه إلى هذه المفارقة موقع «مصدر» على الإنترنت، الذي يتحدث عن تراث الحياة في بيئة صحراوية قاسية لا ترحم جعلت أبوظبي تدرك أن «ممارسات الاستدامة والمحافظة على الموارد ليست مجرد شعارات، بل ضرورات لابد منها لاستمرار العيش في بيئة كهذه». وإنشاء «مصدر» وفق أحدث العلوم والتكنولوجيا ليس بدعة ولا خروجاً عن المألوف، بل هو استمرار لتقاليد إنشاء واحدة من أشهر المدن العربية في التاريخ. «بغداد التي أنشأها المنصور حفّزَت البحث العلمي والابتكارات التكنولوجية ورعاية الفنون والمهن الحرفية، وتشجيع الترجمة من اللغات الأجنبية والقيام باكتشافات جديدة». يعرض تفاصيل ذلك المهندس والباحث المعماري العراقي إبراهيم علاوي في بحث بالإنجليزية يروي كيف عهد المنصور لفرق مهندسين وعلماء فلك من مختلف البلدان بوضع تصميم المدينة التي عمل في بنائها 100 ألف بَنَّاء. وأمر المنصور آنذاك بترجمة أهم المؤلفات في علم الرياضيات والفلك من اللغات الهندية واليونانية إلى العربية، وأهمها «المجسطي»، أطروحة العالم الإغريقي الإسكندراني بطليموس التي ألّف حولها كبار العلماء العرب كتباً وبحوثاً عدة ناقشت وطورت مفاهيمها، وبقيت ترجمتها العربية المرجع العلمي العالمي الرئيسي في علم الفلك والرياضيات حتى القرن السادس عشر الميلادي. ويحفل بحث علاوي وعنوانه «بعض الأبعاد التطورية والكونية لأوائل تخطيط المدن الإسلامية» بتفاصيل الصيغ الرياضية، والرسوم الهندسية، والنظريات الفلكية التي جعلت بغداد، أو كما تُدعى «المدينة المدوّرة»، تبدو «كإسطرلاب كوني عظيم». والإسطرلاب هو كمبيوتر ذلك العصر؛ آلة حسابية تقدم حلولاً هندسية سريعة للمسائل الرئيسية في علم الفلك، وتحسب مواقع الكواكب والنجوم والبروج، وتحدد الأوقات والفصول. وفق تلك الحسابات الفلكية تعين اتجاه القبلة، وموقع بوابات بغداد الأربع، و40 شارع «سكة» تتوزع المدينة، وعلى أساسها أيضاً تحدد تأسيس بغداد يوم 23 يوليو عام 762 في الساعة الواحدة و57 دقيقة بعد الظهر. ولمصادفة اليوم حسب التقويم الزرادشتي ألفية المريخ، والتي تنذر بالثبور، عَمَد «ماشاء الله»، رئيس الفلكيين لدى المنصور، إلى «اعتبار الصفر يوم تأسيس بغداد، وبدءاً من الصفر تحسب أيام الماضي والمستقبل!» هذه «الخبيصة» من العلوم والهندسة والفلسفة والترجمة والفنون وسجالات علماء وفلاسفة العرب والمسلمين، تراث حي في ذاكرة التمدين العالمي.