سفيرة في حالة هيجان وانفعال ثم صفعة قوية على خد شرطية تقوم بعملها. إنها ليس «خناقة ستات»، بل حادثة دولية يجب أن نحللها ونستخلص دروسها. القصة تبدو في ظاهرها بسيطة، لكن أبعادها هامة، سواء من ناحية قواعد الدبلوماسية أو صورة العرب في العالم. في الأسبوع الماضي حدثت مشادة في مطار لارنكا، عاصمة قبرص، بين السفيرة المصرية في هذا البلد وشرطية تقوم بعمليات الأمن وتفتيش المسافرين. الفيديو القصير يبين السفيرة الأنيقة (منحة باخوم) في مشادة عنيفة مع شرطية قبرصية، يبدو أنها تحاول إفهامها أنها كدبلوماسية لا يجب أن تخضع للإجراءات الروتينية في التفتيش، بما فيها خلع الحذاء. لا نسمع بالضبط ماذا تقول الشرطية القبرصية، لكن نرى صفعة من جانب السفيرة على خد الشرطية، ثم تبدو الشرطية في حالة صدمة وذهول، لذلك لم تستخدم أساليب الدفاع عن النفس التي تدربت عليها جيداً. إلا أن رجال الشرطة يتدخلون للقبض على السفيرة بعنف مع وضع يديها خلف ظهرها، ولو كانت عندهم قيود (كلابشات) لوضعوها في يديها. أعترف أني صدمت من الفعل ورد الفعل، بل أعترف أن السفر بالطائرات أصبح الآن بالنسبة للكثيرين عبئاً، وذلك بسبب إجراءات الأمن المتزايدة في المطارات، بل يزداد التوتر عندما تكون في حالة «ترانزيت» بين طائرتين ويكون الوقت غاية في الضيق للوصول إلى بوابة مغادرة الطائرة الثانية، لكن يُصر المسؤول أو المسؤولة عن الأمن على أخذ الوقت اللازم للقيام بالتفتيش. حاولت دائماً إقناع نفسي بأن هذا العمل هو من أجل سلامة الجميع. لكن هناك بعض الاستثناءات في هذه المعاناة، إذ لا يخضع لها مثلاً أطقم الطائرة من مضيفين ومضيفات، وبالطبع الطيارين، وكذلك من يقومون بالمهام الدبلوماسية، سواء كانوا مقيمين في البلد أو في زيارة قصيرة. المهم أن نتذكر أن هذه استثناءات لتسهيل الأمور، بمعنى أنه إذا حدث أي اشتباه أمني تقل هذه الاستثناءات حتى لو كانت هناك حصانة دبلوماسية قوية يدعمها ويحميها القانون الدولي. وقد شاهدنا أمثلة كثيرة على طرد بعض أعضاء سفارة ما لأنهم اتهموا بتهديد الأمن القومي. بمعنى آخر، تعتمد الحصانة على سلوك الدبلوماسي وطبيعة مهمته، وبمعنى أوضح فإنه لو كان هناك سفير في مهمة شخصية، فإن لمسؤول الأمن مطلق الحرية في معاملته كشخص عادي أو احترام حصانته الدبلوماسية. هناك نوع من المرونة الإنسانية على هذا المستوى من الطرفين، ولكن الأمن هو الأمن. ولذلك كنت قد كتبت في هذه الصفحات منذ عدة سنوات عن «مشادة نيويورك» أثناء زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لهذه المدينة، واهتمام شرطة نيويورك بفرض سياج أمني صارم على شارع كان يتكلم في أحد مبانيه. ثم محاولة أحد المندوبين العرب في الأمم المتحدة رفع الحاجز الحديدي والمرور بالشارع ليصل إلى مكتبه بدلاً من المرور في شارع آخر، ثم معاملته الخشنة من بوليس نيويورك، وحتى محاولة احتجازه. وإن اعتذرت وزارة الخارجية الأميركية عن سوء المعاملة، فإنها لم تستطع أن تلوم أو تعاقب رجل الشرطة الذي كان يقوم بعمله لحماية زائر رسمي لنيويورك. وعودة إلى مشادة مطار لارنكا الأسبوع الماضي والسفيرة المصرية، هناك بعض الاستخلاصات أسوقها على عجل: 1- في العالم الثالث عموماً، وليس فقط في العالم العربي، هناك فهم خاطئ للعلاقة بين السلطة والقانون، بمعنى أنه كلما علا مقام المرء فهو يعلو أيضاً على القانون؛ من عدم الانتظار والوقوف في الطابور إلى استخدام منصبه للالتفاف على الإجراءات القانونية. وقد قال لي أصدقاء إنهم بمجرد دخولهم الوزارة مثلاً، يتجه إليهم الكثير من أفراد الأسرة والمعارف للقفز فوق القانون. نحتاج إذن لتطبيق مقولة إن «القانون فوق الجميع»، وأن يكون «الكبير» كبيراً فعلاً في سلوكياته وأولها أن يكون قدوة في احترام القانون. 2- لا زلنا غير متفهمين لخطورة الاعتداء الجسدي أو الضرب الذي هو من الكبائر في معظم أنحاء العالم، حيث إن أي متهم يستدرج غريمه ويستفزه حتى يعتدي عليه جسدياً، وبالتالي تسقط عنه التهم ويصبح فجأة صاحب حق. وهنا نتذكر ما حدث في المباراة النهائية بين فرنسا وإيطاليا خلال كأس العالم منذ عدة سنوات؛ إذ كانت فرصة فرنسا قوية، لكن لاعباً إيطالياً استفز بالقول النجم الفرنسي الجزائري زيدان الذي تجاوب مع الاستفزاز بالهجوم الجسدي، فتم طرده من الملعب، وخسرت فرنسا الفوز بالكأس. 3- قد يكون كلام الشرطية القبرصية للسفيرة المصرية جارحاً لها شخصياً أو لبلدها، لكنه بانفعالها المبالغ فيه ولجوئها للعنف الجسدي، هبطت بمنزلتها إلى مستوى غير المتعلمين وضيعت حقها وحق بلدها، حتى لو اعتذرت الحكومة القبرصية فيما بعد بسبب سوء معاملة السفيرة والقبض عليها. ويقلقني في هذا الصدد أنه أثناء محاضراتي في المعهد الدبلوماسي في مصر، كنت أصر دائماً على أنه من أهم تحديات الدبلوماسي في عمله الالتزام باثنتين: اللباقة وإدارة الأزمات. هل يُبين انفعال السفيرة أنني لم أنجح في توصيل مضمون محاضراتي كما كنت أود؟