في الرباط حضرت مؤخراً الندوة المتميزة التي نظمتها الرابطة المحمدية لعلماء المغرب ومعهد المخطوطات العربية حول مناهج قراءة التراث العربي الإسلامي. وقد استوقفتني مقولة «التراث» التي دخلت الفكر العربي المعاصر في سبعينيات القرن الماضي بمفهومها الجديد الذي يعني الفكر العربي الإسلامي الوسيط لدى أعلام مشهورين مثل طيب تزيني وحسين مروة ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي ونصر حامد أبوزيد. ومن المستغرب أن هؤلاء الأعلام في مجملهم من المشتغلين بالحقل الفلسفي والمتخصصين فيه، وقد لجأوا إلى استعمال هذا المصطلح الذي ليس من المفاهيم الفلسفية المعروفة. فالعبارة المقابلة للتراث في اللغات الأوروبية وهي heritage,inheritance تستخدم وفق دلالة قانونية تناسبها في القاموس الاصطلاحي الإسلامي تركة الميت التي يخلفها لورثته، وهي بالتالي تفترض زوال الأصل وامتلاك الخلف لموروثه. ولا نجد لهذا المصطلح أي حضور في تاريخ الفلسفة التي تعاملت منذ اللحظة الأفلاطونية – الأرسطية مع إشكالية المرجعيات الناظمة للفكر في علاقته بماضيه وخلفياته وسياقه التأويلي. ودون الخوض في هذا الموضوع المعقد الذي يهم المتخصصين، نشير إلى أن المفهوم الذي استخدم على نطاق واسع في الفكر الفلسفي هو مفهوم «التقليد» tradition الذي يجمل دلالة العلاقة المتصلة بين الماضي المرجعي والحاضر الراهن، على الرغم من الاختلاف الواسع في مقاربة هذه العلاقة. ولقد بينا في مناسبة سابقة في هذه الصفحة أن مفهوم التراث يفضي ضرورة إلى نمط خاص من التأويلية هي تأويلية الانفصال والقطيعة التي سلكها أصحاب مشاريع قراءة التراث، خصوصاً المتأثرين منهم بمناهج العلوم الإنسانية التي استندت إلى أبستمولوجيا باشلار وكانجلام وحفريات ميشال فوكو وتفكيكية دريدا رغم أن أعمال الأخير قابلة للقراءة في اتجاه آخر. إن المأزق الذي تفضي إليه هذه المقاربات القطائعية هي افتراض غير مبرر لقدرة القارئ المعاصر على إقامة علاقة موضوعية بالنص المقروء منفصلة عن السياق الثقافي السابق من حيث هو تركة من الماضي المتجاوز لا صلة لها بالحاضر. ومن هنا يغيب التفكير الفلسفي المعمق حول الثلاثية التأويلية، التي ينبني عليها تاريخ الفكر:المسبقات الاعتقادية والسلطات المعرفية والتقليد المرجعي. ولقد شغلت هذه الثلاثية التأويلية ثلاثة من أبرز فلاسفة العصر هم : غدامر وحنة ارنت وليو شتراوس على اختلافهم الواسع في المرجعيات والاهتمامات النظرية. الرأي السائد لدى المدرسة الاختزالية في قراءة التراث، (أي اختزاله إلى موضوع معرفي خارجي محدد السياق التاريخي)، هو أن المنهج النقدي الموضوعي والعلمي يكمن في رفض الأحكام المسبقة لأنها عديمة القيمة المعرفية والخروج عن السلطات المؤسسية المقننة والضابطة للمعارف باعتبارها معيقة للبحث العلمي الحر والقطيعة مع التقليد المرجعي، الذي لا ينتمي لوضعنا المعاصر (أحياناً تكون القطيعة قطيعة تأويلية لا انفصالاً كلياً). يوضح لنا «غدامر» في كتابه الأساسي «الحقيقة والمنهج» أن الأحكام المسبقة ليست مناقضة بالضرورة للعقل وليست أحكاماً عديمة القيمة المعرفية أو غير مؤسسة، بل هي المدخل الذي لا غنى عنه ولا مناص منه للمسار التأويلي، فهي فكرة موجهة للنظر ومشروع قبلي يخضع للتحقق والمراجعة، ومصدر للحقائق ما دام لا يمكن للعقل البشري أن ينطلق من نقطة الفراغ والبداية الصماء. فالإنسان كائن تاريخي، ينتمي بالرغم منه لعالم سابق عليه، بيد أنه لا يستوعب هذا العالم بطريقة سلبية ساذجة، بل من خلال ملكاته التأملية والنقدية التي تسمح له بإخضاع مسبقاته للمراجعة النقدية المستمرة. وإذا كانت الحداثة منذ لحظاتها الأولى قد بلورت مفهوماً سلبياً للسلطة الثقافية (نقد التقليد المدرسي السكولاستي عند ديكارت وصيحة تحرر الذات من السلطات الدينية والمعرفية لدى كانط)، إلا أن الخلط سائد في تأويليات القطيعة بين السلطة والخضوع الأعمى من دون دليل ولا تمحيص. السلطة كما يقول «غدامر» ليست في نقيض مع العقل النقدي والحرية، وإنما هي فعل اعتراف وتعرف وإطار لانتقال ونقل الأفكار والمعارف. ولقد عالجت «حنة آرنت»مفهوم السلطة في علاقتها بالإكراه والاستبداد مبينة أن المقاربات السياسية الحداثية تخلط بين السلطة والعنف، في حين أن السلطة هي إطار التفاعل الجماعي والعيش المشترك في مقابل الفردية الكليانية المغلقة، وهي تبدو أساساً في المؤسستين الأسرية والتربوية التعليمية بصفتهما مؤسستين ما قبل سياستين. والعلاقة جلية بين السلطة والتقليد من حيث هو الإطار الموجه والخيط الناظم للفكر وليس التركة الماضوية المندثرة. ويمكن إرجاع الصورة السلبية للتقليد لبراديغم الوعي الذاتي الذي قامت عليه الحداثة الغربية، باعتبار أن البديل عن مرجعية التقليد هو مصادرة شفافية الوعي المتمحور حول نفسه، وأهليته لتمثل الطبيعة والوجود باستقلال وتميز عن أي سلطة موجهة أو تقليد تاريخي. ويرجع «ليو شتراوس» هذا التصور لأبطال الحداثة الثلاثة مكيافيلي وهوبز وروسو الذين أحدثوا ثلاثة أنماط من الاختزال تركت أثرها على طبيعة النظرة السائدة للتقليد: اختزال الفلسفة السياسية إلى مجرد نظرية في السياسة، بمعنى مقاربة الفعل السياسي مجالا لممارسة القوة والهيمنة. واختزال فلسفة الأخلاق في نمط من التسيير الإجرائي للأهواء والمنافع المحركة لنفسية البشر. واختزال فلسفة الطبيعة والحق الطبيعي إلى مجرد إطار تواضعي عرضي تضبطه عقلانية أدواتية صرفة، مما يقتضي الفصل الجذري بين الوقائع والقيم والأخلاق والسياسة. لا يهمنا من أفكار شتراوس نقد موجات الحداثة الغربية التي خصص لها جل أعماله طارحاً بديل التقليد « بمفهومه اليهودي - الإسلامي»، الذي يعني بالنسبة له تخليص الإنسان من العدمية التاريخانية، وإنما أردنا من خلال التلميح إلى أطروحته الإشارة إلى التلازم بين الاتجاهات المحافظة في نقد الحداثة والاتجاهات ما بعد الحديثة الراديكالية (تفكيكية دريدا مثلاً) في إعادة الاعتبار للسياق والتقليد في مقابل مركزية الوعي ووهم القطيعة التاريخانية مع تركة الماضي، مما فات مشاريع قراءة التراث السائدة عندنا في تشبثها الهش بمقاربة تأويلية فقيرة ومتجاوزة.