مع مطلع كل عام تكون الحاجة ملحة لأخذ جردة ووقفة تقويم للعام الذي مضى وانقضى بكل تعرجاته، وحلاوته ومرارته، بانتصاراته وانتكاساته، وأحياناً نتوقف لنقول إن أفضل ما في عام مضى هو أنه قد أسدِل الستار عليه وذهب غير مؤسوف على رحيله. وقد كان عام 2012 من تلك الأعوام الصعبة التي مرت على العالم بأسره، وسط مخاوف من التقسيم والتفتيت، وتمدد الثورات، وتعثر «الربيع العربي»، وصعود الآخرين وخاصة روسيا والصين، والتراجع الأميركي بعد التقوقع بسبب عام الانتخابات والأزمة الاقتصادية و«حافة الهاوية المالية» التي استنزفت أميركا وجعلت روسيا والصين تتنمّران عليها في أكثر من ملف مثل الثورة السورية باستخدام حق «الفيتو»، فيما تنهمك أميركا في تحويل بوصلة اهتمامها باتجاه آسيا والصين. وفي إسرائيل يستمر تحدي أميركا حول المستوطنات، وكذلك دولة فلسطين التي لم ينجح الضغط الأميركي في ثنيها عن الإصرار على الذهاب إلى الأمم المتحدة والحصول على وضع دولة غير عضو في المنظمة الدولية بأصوات أكثر من ثلثي دول العالم مقابل معارضة 9 دول فقط على رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد اكتشفت أيضاً أميركا وإسرائيل ما حذر منه هنري كيسنجر من محدودية الهيمنة، وأن على واشنطن التفاوض والتقارب مع الآخرين... وهذا ما رأيناه في عام 2012 في الولايات المتحدة نفسها، خاصة مع تصاعد الانقسامات السياسية بين البيت الأبيض والكونجرس والتباين حول كيفية التعامل مع الأزمة المالية وتجنب الوقوع في حافة الهاوية. وإن كان أوباما قد نجح في تمرير قانون يجنب بلاده والعالم انهياراً وانكماشاً وكساداً اقتصادياً قاسياً، إلا أن هناك جولات قادمة من الصراع والخلافات حول رفع سقف الدَّين العام الذي تجاوز 16,7 تريليون دولار، وخفض الإنفاق على المشاريع الاجتماعية والصحية مما ينذر بمواجهات قادمة. وهذا ما قاد وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس للتعليق في كلمتها في مؤتمر الحزب الجمهوري خلال الصيف الماضي إلى أن تقول إن الدولة التي تفقد القدرة على إدارة وضعها المالي تفقد أيضاً القدرة على القيادة والزعامة... فهل هذا هو ما يحصل لأميركا اليوم؟ مع عجز في الموازنة ودَين عام وصل إلى أرقام فلكية ونسبة بطالة 7,8 في المئة؟ لقد بدأ عام 2012 على إرهاصات استمرار تداعيات الأزمة المالية والتراجع في القوة والحضور الأميركي والصعود والنفوذ الروسي والصيني. وبدأ وتركيبة العالم تجنح للتعددية القطبية. ولم ينجح أساتذة العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي في توقع الثورات والتحولات الكبيرة على شتى المستويات. ومع ظواهر التراجع الأميركي والصعود الروسي- الصيني والتعددية القطبية وتعثر الربيع العربي بعد عامين وربيعين وخريفين وشتاءين، بدت الحاجة ملحة إلى الإجابة على هذا السؤال: هل جمهوريات الربيع العربي المتعثرة تواجه الفوضى التي نراها، أم هي إحدى ظواهر ومسارات التغيير العميقة التي شهدتها بعض الثورات الكبيرة والصغيرة التي أسقطت أنظمة ديكتاتورية ثم غرقت في مواجهات أدت إلى أن تأكل الثورة أبناءها، ومن ثم يصبح من المفترض أن يكون المآل الأخير لهذه الثورات هو ما تمخضت عنه تلك الثورات الأخرى كالفرنسية في القرن الثامن عشر، والروسية في القرن العشرين. ولكنْ لهذا مقال آخر. إلا أن الثابت هو أن علينا كعلماء سياسة أن نبذل جهداً أكبر اليوم في دراسة المجتمعات والحركات السياسية والاجتماعية أكثر مما ندرس الحكومات والأنظمة السياسية، لنفسر الظواهر والمسارات التي نعيشها اليوم، وخاصة مع صعود الحراك الشبابي، والإسلام السياسي، والقوة الناعمة، وثورة المعلومات ووسائط التواصل الاجتماعي التي أصبحت لاعباً مؤثراً كما شهدنا في الكثير من المجتمعات. كيف يمكننا إذن أن نختصر عاماً كاملاً بكل تعرجاته وأزماته وكوارثه وانتصاراته وإخفاقاته وحروبه وانتخاباته، وأولمبياده، في مقال بأقل من 1000 كلمة؟ ومن أين نبدأ في إلقاء الضوء على حصاد عام 2012 وهو عام السياسة والرياضة بامتياز. وقد كان عام انتخابات في الدول الكبرى. وفيه أثبت أوباما استحقاقه للفوز بولاية رئاسية ثانية، وحقق هذا الهدف بقوة مؤكداً بذلك أن فوزه في عام 2008 لم يكن صدفة، وقد كسر يومها حاجز العرق بحكم كونه أول رئيس غير أبيض يدخل البيت الأبيض ويتولى رئاسة أميركا مع أن السود لا يشكلون من شعبها سوى نسبة 12 في المئة وبذلك يحسب هذا المكسب أيضاً لصالح التسامح الأميركي مع الأقليات، وخاصة أنها قد لعبت دوراً حاسماً في خسارة منافس أوباما مرشح الحزب الجمهوري «رومني». و2012 أيضاً عام أعيد فيه انتخاب بوتين الذي رجع إلى قصر الكرملين في لعبة تدوير الكراسي مع مدفيديف حيث تبادلا الأدوار مجدداً. وهو أيضاً عام أعاد الفرنسيون فيه الاشتراكيين إلى السلطة ممثلين في «أولاند». وكذلك غيرت القيادة الصينية زعيمها بالانتخابات لأول مرة... وهو عام أثبتت فيه كوريا الشمالية مجدداً قدرتها على المشاكسة وإطلاق صواريخ بعيدة المدى بنجاح! وعام تراجعت فيه أوروبا على المسرح العالمي وغرقت في أزماتها المالية، وكادت تتفكك ويسقط «اليورو» كعملة موحدة لسبع عشرة دولة من دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين، وسيزيد عدد الاتحاد إلى ثمان وعشرين دولة في عام 2013. ومن الظواهر التي كنا نخشى منها في عالمنا العربي في عام 2012 بعد تقسيم السودان إلى دولتين، أن نشهد أيضاً تفتيت وتجزئة دول أخرى. ومن الظواهر الأخرى كان تأثير موجة «الربيع العربي» على جمهوريات أخرى تعيش بجوار جمهوريات شهدت موجة «الربيع». ومع نهاية عام 2012 برز العراق باعتباره الجمهورية الأكثر قابلية لأن تشهد تمدد «الربيع العربي» إليها عن طريق ربيع العراق على خلفية الاحتقان الطائفي واستهداف المكون السني، وقد شهد مظاهرات وصلت إلى بغداد مطالبة، مع قيادات عراقية منها علاوي، باستقالة المالكي، كما وصفه أيضاً نائب الرئيس صالح المطلك بـ«الديكتاتور»، وكان معبراً إطلاق اسم جمعة الصمود على حراك يوم الجمعة الماضي، وفي هذه الأثناء يتواصل الحديث عن احتمال كبير لحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة. وكان من المتوقع أيضاً أن يشهد عام 2012 وضوح التحرك نحو الاتحاد الخليجي، وأن ننتقل من مراوحة التعاون إلى الاتحاد، في عصر التكتلات، لتوظيف إنجازات وقوة مجلس التعاون الخليجي المرنة من مداخيل تجاوزت 1,4 تريليون دولار، ويتوقع أن تتجاوز تريليوني دولار قبل نهاية العقد الحالي، وكذلك بروز دور المجلس على المستوى العربي كقائد للحراك العربي بسبب المبادرات والدور القيادي الذي تتولاه دوله. ولكن انقضى عام 2012 ولم تشهد دول المجلس الانتقال إلى الاتحاد... على أمل أن يشهد عام 2013 تحركاً أكثر وضوحاً نحوه وسط دول مندفعة وأخرى متمهلة. أما أداء قيادات جمهوريات «الربيع العربي» فقد بدا التخبط المتوقع في بعض تلك الدول من خلال بعض القرارات الصعبة، وقد عرفت مصر تجاذباً قبل أن يجري استفتاء على الدستور الجديد ومن المقرر إجراء انتخابات برلمانية بعد شهرين. أما في تونس وليبيا فالمشهد يبدو أقرب إلى الفوضى منه إلى الاستقرار، وهذه ظاهرة تكررت في العديد من الدول والمجتمعات التي شهدت ثورات. والحكم على أداء الإسلام السياسي في تلك الجمهوريات بسبب التخبط والارتباك والسعي للاستحواذ ليس إيجابياً. وسيشهد عام 2013 استمرار تلك المسارات والظواهر التي قد تصل إلى مآلاتها في التغيير، وخاصة الثورة السورية وربيع العراق. كما سيتضح أكثر الدور الأميركي ومستقبل أوروبا والصعود الصيني والتحدي الروسي. وفي إقليمنا سنتابع المواجهة حول المشروع الإيراني، وملف طهران النووي، والصراع بين المواجهة والعقوبات والحرب الباردة بين دول مجلس التعاون وإيران... ولهذا مقال آخر إن شاء الله.