ثقيل هو الهّم السوري على اللبنانيين. دمار سوريا ليس أمراً محصوراً بنتائجه داخل الحدود السورية فحسب، بل هو يهدد دولة لبنان. فكيف إذا كان بعض اللبنانيين من هنا وهناك قد انحرف عن سياسة النأي بالنفس وانجرف نحو التدخل المباشر والميداني في الحرب السورية. وتهجير السوريين من مختلف المناطق إلى لبنان، ونزوح عدد كبير من الفلسطينيين من مخيم اليرموك إلى مخيمات لبنان، ليس أمراً عادياً يتلاءم مع قدرات لبنان على استيعابه سياسياً وأمنياً واقتصادياً وديموغرافياً نظراً للخصوصية اللبنانية، في الأساس، وللواقع السياسي القائم. نسمع تحذيرات من كبار اللاعبين الدوليين والمطلعين على أسرار الكواليس ومجريات الأمور، من جنوح الوضع السوري نحو الصوملة، أو الفوضى، أو الفلتان، أو الانهيار أو الجحيم. ونرى قرارات وسياسات تعتمد في دول مجاورة لسوريا وإجراءات تتخذ لحماية نفسها من تداعيات أي احتمال. وهذا أمر طبيعي في منطق الدول وحساباتها عندما تستشعر خطراً ما. نحن في لبنان نكاد نكون خارج دائرة المنطق، وبعيدين عن التصرف بعقل الدولة، ورافضين التعلّم من تجارب ودروس وعبر الماضي البعيد والقريب، التي تعلّم منها كثيرون محترفون في السياسة والدبلوماسية وأغنوا ثقافتهم وكأنهم تعلموا عندنا وبنا ومن أحداثنا ومشاكلنا ونحن لا نريد أن نتعلم. في لبنان، سوريا في كل زاوية وشارع. الوضع السوري يفرض نفسه على الجميع. ومنذ بداية الأحداث كان خطأ في التقدير وسوء إدارة وتدبير. خطأ في تقدير معنى الأحداث وأبعادها ومداها الزمني. في مجتمع يعيش انقساماً سياسياً حاداً وصراعاً شديداً له أبعاده وخلفياته الداخلية وامتداداته الخارجية من سوريا إلى إيران. كان ثمة فريقان. واحد قدّر المسألة ببساطة متناهية ومكابرة معتبراً أنها تحسم خلال أيام لمصلحة النظام، والثاني قدّر نهايتها السريعة لمصلحة المعارضة. الأول اعتبر أنه ثابت في خياراته ونجاحه، ولن يتمكن أحد من زحزحة النظام وفرض معادلة جديدة في المنطقة أو في لبنان. والثاني اعتبر أنه خلال أسابيع أو أشهر قليلة ستنتهي المعادلة القائمة في سوريا وبالتالي في لبنان. ولم يكتفِ الفريقان بالتحليل والقراءة السياسية، بل ذهب كل منهما إلى التدخل الميداني. طالت الأزمة وبات سوء التقدير والتدبير ثقيلاً بنتائجه على لبنان مهدداً أمنه واستقراره في وقت لا يزال فيه الموقف الدولي واضحاً: لا للتفجير في لبنان. لا للفتنة فيه. لكننا بمثل تلك السياسات ذهبنا إلى ما يعاكس ذلك. لم نستفد من الفرصة. لم نعرف كيف نتصرف. بل، بالحسابات الصغيرة، والانفعالات والأحقاد عمّقنا الانقسام وألحقنا الضرر بالبلاد والعباد. ولم نكتف بالوقوف عند هذا الحد، بل ذهب بعضنا إلى مواقف غير واقعية. إلى اندفاعات غير محسوبة. لا تقدير فيها لعواقبها ونتائجها السلبية. تصرّف وكأنه لاعب إقليمي وذو قدرات كبيرة وتأثير على المستوى الدولي. تصرّف وكأنه محرك أساسي للعبة في سوريا. غرق في دائرة الأوهام. هذا يهاجم الدول العربية. ينتقد تحذير رعاياها من الوضع في لبنان وينادي على السياحة في أصقاع الأرض! وذاك ينتقد دولاً أخرى، لأنها دخلت على خط الأزمة السورية. وهو ينتقد من الموقع ذاته! بل عندما كانت هذه الدول على خط معاكس، أي مؤيد للنظام في سوريا، كان يشيد بها ويحتمي بها، وكان يتناسى ويتجاهل دورها وموقعها وعلاقاتها وحساباتها التي لا تنسجم مبدئياً في أمور كثيرة مع حساباته ومنطقه ما يعجبنا نندفع إليه دون حساب. وما لا يعجبنا نرفضه، وليس ثمة معيار واحد في التعاطي. هذا يدعو إلى إقفال الحدود في وجه النازحين وتوزيع الذين دخلوا على دول عربية، هو يرى أن العالم كله لم يهتم بنا حتى الآن. قليل جداً جداً المال الذي وصل إلى لبنان. والسبب الأساس في ذلك سوء إدارتنا وعدم رسمنا واعتمادنا لسياسة استراتيجية واضحة من الأساس للتعاطي مع قضية النازحين. وإقفال الحدود أمر مستحيل. وإذا أقفلت معابر شرعية، استخدمت كل المعابر غير الشرعية. وهذا ما يحصل في كل دول العالم. ويخرجون عليك بالقول، هكذا فعلت تركيا، وهكذا فعل الأردن، وكأنهم يتناسون أن ثمة دولة في تركيا، عقل دولة وحسابات دولة ومؤسسات دولة، وكل هذا ليس موجوداً في لبنان. وأن ليس ثمة انقسام سياسي يؤدي إلى مخالفة توجهات وقرارات الدولة وفتح البلاد من كل حدودها على كل الأزمات بغض النظر عن الخلافات السياسية من الحدث السوري! وبالتالي فإن في تركيا وغيرها قدرة على تنفيذ القرار، وفي هذا التوقيت يأتي البعض الآخر ليهدد المصالح التركية. بات كثيرون من مواقع مختلفة في لبنان يهددون بطريقة أو بأخرى مصالح دول كثيرة. لكنهم في النهاية يهددون جميعاً مصلحة لبنان، وهم لا ينكفئون عن التكرار أنهم بما يفعلونه يحفظون سيادة ومصلحة وحق لبنان! لقد أصبح عبء النازحين السوريين والفلسطينيين إلى لبنان كبيراً علينا. لكن العبء الأكبر هو عدم معرفة التعاطي معه، بل والاستمرار في سياسة المكابرة والادعاء واتخاذ مواقف أكبر منا ولا قدرة لنا على ترجمتها، ولا تنتج إلا السلبيات. يقال: عند اهتزاز الدول احفظ رأسك، نحن نساهم في اهتزاز دول وندعي أننا سنرفع رأسنا، لن نحفظ شيئاً في مثل هذه الحال، لأننا في الأساس عطلنا ذاكرتنا ولم نحفظ دروس الماضي وتاريخ هذا البلد. إقفال الحدود غير ممكن، تحديد عدد النازحين غير ممكن. التعاطي الإنساني المدروس على قاعدة بنك معلومات دقيق تتجمع فيه كل المعلومات ممكن وضروري. شعار توزيع النازحين هنا وهناك غير واقعي. سياسياً نحن أمام نكبة في سوريا لكنها غير النكبة في فلسطين. الشعار يستفز كثيرين، وغير قابل للتطبيق، لا في دول عربية، ولا في غيرها بناء على طلب لبنان. كل دولة أقامت حساباتها وهي التي تقرر ولا تنتظر لبنان. فعلى لبنان أن يحدد مصالحه ويعرف كيف يحققها. سياسة استفزاز الدول العربية ستؤدي إلى اهتزاز كبير، وماذا لو نزح لبنانيون من هذه الدول بسبب تلك السياسة؟ أهذه هي العبقرية اللبنانية في التعاطي مع مثل هذه الاحتمالات في لحظة التحولات الخطيرة التي تعيشها المنطقة؟ للأسف مرة جديدة أقول، وفي سياق متابعة كيفية التعاطي مع هذا الواقع، لم نثبت جدارة في تحمل المسؤولية لا في الموالاة ولا في المعارضة. المعارضة التي ترمي الكرة على الموالاة وبعضها منغمس بالشأن السوري ميدانياً يجب أن تدرك أنها عندما تصل إلى السلطة يوماً ما سوف تواجه نتائج ما يجري الآن. والموالاة يجب أن تدرك كيف تكون حماية لبنان بحسابات كبيرة. في عام 2013 مقبلون على تطورات دراماتيكية في سوريا وانعكاسات لها في لبنان مع استحقاقات داخلية كبيرة ومفصلية .آن الأوان لنخرج من دائرة سوء التقدير والتدبير.