هناك اعتقاد شائع بأن «الكساد العظيم» كان نتاجاً لبعض الأحداث التي خرجت عن نطاق السيطرة، بينما الحقيقة هي أن القرارات المالية كانت سبباً رئيسياً وراء حدوث الانهيار الاقتصـادي. وفي كتابه "سادة المال... المصرفيون الذين سببوا إفلاس العالم"، والذي نعرضه هنا، يسلط لياقت أحمد الضوءَ على أشخـاص غيّرت أعمالهم مسار الأحـداث في القرن العـشرين، وهم رؤساء البنوك المركزية في كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، وبذلك فهو يمثل تذكيراً قوياً بالتأثير الهائل الذي تُحدثه قرارات مسؤولي البنوك المركزية، وما قد تجره من عواقب على اقتصادات الدول ومصائر الأفراد. فبعد الحرب العالمية الأولى، حاول محافظو البنوك المركزية في تلك الدول إعادة بناء النظام المالي العالمي، ورغم كل التباينات، فقد جمع بينهم خوف مشترك من خطـر التضخم بوصفه أعظم تهـديد يواجه الرأسمالية، كما اشتركوا في الاعتقاد بضرورة العودة مجدداً إلى العمل بقاعدة «غطـاء» الذهب. ويقدم الكتاب توصيفاً موسعاً لذلك الكساد الذي ضرب العالم بين عامي 1929 و1933، وكان الحدث الاقتصادي الأبرز خلال القرن العشـرين، ومنه جاء الاضطراب في أوروبا، وصعود النازية والفاشية، والانزلاق نحو حرب عالمية ثانية أشد فظاعة من الأولى. وحول حجم الانهيار الاقتصادي الذي وقع خلال ثلاث سنوات، يذكر الكتاب أن الناتج القومي الإجمالي في البلدان ذات الاقتصاد القوي انخفض بنسبة تجاوزت 25 في المئة، وأن ربع الذكور تقريباً طردوا من أعمالهم، كما هبطت أسعار السلع بنسبة 30 في المئة، وانخفضت الأجور بنسبة الثلث، وقُلِّص الائتمان المصـرفي في الولايات المتحدة بنسبة 40 في المئة، وانهار النظام المصـرفي، وعجزت الدول المدينة عن سداد ديونها، ومنها ألمانيا (ثالث أكبر اقتصاد على مستوى العالم)، كما أوجد الاضطراب الاقتصادي صعوبات في كل ركن من أركان المعمورة، من براري كندا حتى مدن آسيا المكتظة بالسكان، ومن قلب أميركا النابض بالتقدم الصناعي، حتى القرى الصغرى في الهند. ويستكمل المؤلف سرد قصة الانحدار من الازدهار القوي في عشـرينيات القرن العشـرين إلى "الكساد العظيم" في ثلاثينياته، من خلال السير المهنية للرجال الذين ترأسوا البنوك المركزية الأربعة الرئـيسية في العالم، وهم: نورمان مونتاجو (إنجلترا)، وبنجامين سترونج (الولايات المتحدة)، وهيلمار شاخت (ألمانيا)، وإميل مورو (فرنسا). فقد شكّل هؤلاء، مجموعة رباعية لمحافظي البنوك المركزية، ممن تولوا مهمة إعادة هيكلة الآلية المالية العالمية عقب الحرب الأولى. فخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشـر، تمت إقامة آلية موسعة للائتمان الدولي، ترتكز على معايير قاعدة الذهب، جلبت معها توسعاً ملحوظاً للتجارة والازدهار حول العالم، بيد أنها تحولت في عام 1919 إلى خراب؛ فأوشكت بريطانيا وفرنسا وألمانيا على الإفلاس، وأصبحت اقتصاداتها مثقلة بالديون، وعانى سكانها الفقر نتيجة ارتفاع الأسعار فيها، وانهيار عملاتها. وفي منتصف العشرينيات بدا وكأن محافظي البنوك المركزية يحققون نجاحاً، حيث استقرت أسعار العملات العالمية، وبدأ تدفق رأس المال بحرية عبر العالم، وانتعش النمو الاقتصادي مجدداً. لكن تحت مظهر الازدهار، كان يتوالى ظهور التصدعات، وثبت أن قاعدة الذهب تمثل معوقاً للازدهار. لقد نشبت الأزمة بالفعل وأخذت ترتد من أحد ساحلي الأطلـسي إلى الآخر، بدءاً من تقلص الاقتصاد الألماني عام 1928، ثم انهيار بورصة وول ستريت في العام التالي، وحالات الذعر المصـرفية التي أصابت الولايات المتحدة، وتفكك الأوضاع المالية الأوروبية صيف عام 1931. وإذا كان الكتاب يعتبر أن الساسة كانوا المذنب الأول في ذلك، إذ حمّلوا من خلال مؤتمر السلام في باريس، اقتصادَ العالم عبئاً كبيراً حين كان لايزال يحاول جاهداً التعافي من آثار الحرب وتبعاتها، فإن المذنب الثاني في نظره كان محافظي البنوك المركزية الأساسية المذكورين، إذ كانوا مسؤولين عن الخطأ الرئـيسي الثاني الذي ارتكب على مستوى السياسة الاقتصادية خلال العشـرينيات؛ وهو قرار عودة العالم ثانية إلى الارتباط بقاعدة الذهب. وفي هذا الصدد يوضح الكتاب أن موارد الذهب لم تواكب الأسعار، وكانت معظم سبائكه متركزة في الولايات المتحدة؛ ففقدت قاعدة الذهب فعاليتها، ما أدى إلى الضغط المستمر على البنوك المركزية للدول الأخرى. لقد استطاع رباعي البنوك المركزية المحافظة على استمرارية الاقتصاد العالمي مؤقتاً، لكن بالإبقاء على أسعار الفائدة الأميركية منخفضةً، وبإنقاذ ألمانيا من الغرق؛ وبطوق نجاة مصنوع من أموال مقترضة... بمعنى أنهم أقاموا منظومة كان لابد لها حتماً أن تنتهي بالانهيار، متسببة في إفلاس العالم! محمد ولد المنى ------- الكتاب: سادة المال... المصرفيون الذين سببوا إفلاس العالم المؤلف: لياقت أحمد الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2012