تلقيت في آخر يوم من عام 2012 اتصالاً غالياً من أحد رجالات الإمارات، وعلى الرغم من أنه أكبر مني سناً ومقاماً وخبرة وعطاء إلا أنه بادر بالاتصال رغم طول الانقطاع، جميل الأخلاق نتعلمه من مثل هؤلاء الرجال. هو رجل مهموم منذ الأزل بهذه الأمة، كان يتكلم عن الوضع في الإمارات والوضع في العالم العربي وما يشهده من ربيع خريفي، ورغم قلقه على دول المنطقة إلا أنه قال: هل تعرف أفضل ما في هذه الأحداث؟ قلت: ماذا؟ قال: إن الشعوب العربية تخلصت من الخوف من أنظمتها وأصبحت تطالب بحقوقها... أتفق مع هذا الرأي تماماً، فقد رأينا كيف أن «جمهوريات الخوف» تتلاشى. وفي 28 ديسمبر عام 2011 كتبت مقالاً في هذه الزاوية وكان تحت عنوان «مفاجآت 2012... أكثر إثارة». أما عامنا الذي بدأ بالأمس فلا شك أن الإثارة فيه ستستمر وقد لا تقل عن العام الفائت بل ستكون التحديات أكبر. توقعنا أن يكون عام 2012 هو عام «جماعات الإسلام السياسي»، وكان كذلك فقد استأثروا بالمشهد السياسي، وتوقعنا أن تدفع هذه الجماعات ثمن اندفاعها السياسي، ولم ينته العام إلا واكتشفت تلك الجماعات أن رصيدها في الشارع انخفض كثيراً. أما إسرائيل فتوقعنا أن تكون الرابح الأكبر، فأصبحت ولا تزال، فحتى تخوفها من تأثير حكم «الإسلاميين» لم يعد موجوداً بعد أن رأت أنهم كمن سبقهم ولا خوف منهم! عام 2012 شهد انكشاف تيارات الإسلام السياسي التي دخلت لعبة السياسة، وفي العام الجاري ستنكشف أمور أكثر، وسيصدم الإنسان العربي بهذه الفئة من المجتمع التي عندما تتمكن تحارب كل من يخالفها، وفي المقابل عندما تضعف أو تتراجع فإنها ستتخلى وتتنازل عن كل ما لديها من أجل «مصلحتها»... وهذا يعني أننا سنشهد شداً وجذباً كبيرين خلال الأشهر المقبلة، وستعمل هذه الجماعات كل شيء من أجل أن تستعيد ما خسرته خلال العام الماضي. القلق ليس من الإسلام السياسي فقط... فما يقلق من هؤلاء هو سطحيتهم السياسية وعنف بعضهم وإمكانية استغلال من يصلون إلى الحكم منهم وتوريطه في قضايا تجعل الدول التي يحكمونها تخسر كثيراً، أما القلق الحقيقي هو من التدخلات الدولية وتدخل الدول الكبرى في شؤون المنطقة ومحاولة إعادة صياغة المنطقة وفرض السيطرة على مقدرتها مجدداً. محاولات القوى الكبرى التدخل بل إعادة صياغة المنطقة العربية سياسياً وجغرافياً لم يعد خافياً، ويؤكد تصريح وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس منذ أسابيع في واشنطن، خلال اجتماعها مع رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني، أن وراء ما يحدث في المنطقة مخطط كبير. فقد أخبرت رايس البارزاني بأن حلم الدولة الكردية سيتحقق قريباً، مشيرةً إلى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد اكتمل وعلى وشك البدء بالتنفيذ. وفي مقال سابق لرايس في «واشنطن بوست» تحدثت فيه حول المراحل الماضية والمرحلة الحالية والمرحلة المستقبلية لمشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي بدأ منذ 90 عاماً وتمت توسعته وتخطيطه من جديد في عام 2003 -وهي من المؤسسين الرئيسيين لهذا المشروع- أشارت إلى أن مسألة تقسيم الشرق الأوسط باتت على وشك الانتهاء، مستثنية من ذلك تركيا، وذلك بسبب استمرار القضية الكردية فيها. تقول رايس: إن الحرب الداخلية في سوريا هي الستارة الأخيرة في مسرحية التقسيمات الجارية في الشرق الأوسط. وتركيا أيضاً كذلك، لولا المسألة الكردية التي لاتزال تؤرق أنقرة. وتضيف: إن الربيع العربي ومن ضمنه ما يجري في سوريا، إثبات عملي بأن مشروع الشرق الأوسط دخل في حيز التنفيذ خطوة خطوة. ورايس نفسها، حينما أطلقت مشروع الشرق الأوسط الكبير في عام 2003، كانت قد ذكرت أن خريطة الشرق الأوسط ستتغير بدءاً من المغرب العربي حتى خليج البصرة، وستشمل 22 دولة، ومن ضمنها تركيا. والسؤال المهم في مسألة التغيير هو: هل ستكون سوريا آخر أحجار الدمينو التي تسقط في المنطقة؟ الكثيرون يتمنون أن تكون الحجر الأخير... لكن السؤال: ما الذي يجعلها الحجر الأخير. بالإضافة إلى الملفات العربية المفتوحة فإن من الملفات الجديدة التي سيكون لها حضور في العام الجديد، الوضع العراقي ففي الأيام الأخيرة من العام الماضي شهدنا تحركات شعبية كبيرة في بعض محافظات ومدن العراق تعبيراً عن غضب العراقيين على أداء حكومتهم، ورغم قراءة البعض لها على أنها ثورة سنية على حاكم شيعي فإن الأيام ستكشف أنها ثورة شعبية على نظام بدأ يكرر ممارسات النظام الذي سبقه. فهل تنتبه النخبة الحاكمة في العراق لوضعها أم أنها ستواصل إقصاء من يختلف معها وتحاربه؟ وفي محاولة منه لتصدير الأزمة للخارج، اتهم المالكي منذ أيام تركيا بأنها تريد تقسيم العراق بصفقة مع كردستان! أما فلسطين فمعارك أبنائها لا تزال مستمرة، فبعد أن كان المقاومون يقاومون من أجل تحرير وطنهم، فإنهم الآن يقاومون من أجل السلطة! وبالأمس قالت «حماس» لعباس إنها أولى بالسلطة في فلسطين... فمن يحدد من هو الأولى ومن يستحق؟ هل هي صناديق الاقتراع أم القوى الخارجية والمجتمع الدولى أم الشارع؟ وهل يقبل الفلسطينيون بمختلف مكوناتهم السياسية بمن سيتولى السلطة ويعملون معاً على بناء دولتهم التي حصلت على «اعتراف» دولي؟! منذ أن أشعل البوعزيزي النار في جسده والشارع العربي مستمر في احتجاجاته واعتصاماته. والسؤال: ما الذي يمكن أن يوقف تلك الاحتجاجات؟ ما الذي يعيد تلك الجماهير إلى حيث كانت؟ لقد عرفت الجماهير كيف تحصل على حقوقها أو على الأقل كيف تطيح بمن يحرمها حقوقها. وقليلة هي الدول التي أجابت على السؤال ونجحت في التعامل مع الجماهير واستطاعت أن تحافظ على مكتسباتها وتتجاوب مع مطالب شعوبها. وهذه الدول تبدو أكثر هدوءاً واستقراراً من غيرها. دول الخليج لم تكن بعيدة عما يحدث في المنطقة، فالشارع السياسي في بعض دولها كان نشطاً والحوار كان ساخناً، إلا أن هذه الدول نجحت في جعل عام 2012 أكثر هدوءاً حيث مرّ بسلام وتعاملت مع الملفات الشائكة بطريقة متوازنة إلى حد كبير. ونحن ندخل العام الجديد الذي يبدو أن الإثارة ستتواصل فيه، من المهم أن ندرك أننا لا نزال في بداية مرحلة قد تستمر لسنوات وقد تؤسس لشكل القرن الجديد. لذا فإن استمرار الدول العربية في تكرار أخطاء الماضي سيضرها كثيراً. أمنياتي في العام الجديد أن يكون أكثر جمالاً وإشراقاً وسلاماً، في الإمارات والدول العربية والعالم.