في مصر سمعنا الأسبوع الماضي جموعاً شعبية هادرة تهتف بالشعار الذي حملته الثورات العربية منذ اللحظة التونسية : «الشعب يريد إسقاط النظام»، وسمعنا جموعاً عريضة أخرى تهتف بشعار موازٍ هو «الشعب يريد الدستور ويؤيد الرئيس المنتخب». في الحالتين المتصارعتين تتم الإحالة إلى الشعب، وإن كان السياقان مختلفين والمرجعيتان متباينتين. ما هو الشعب إذن من حيث هو مصدر الشرعية في النظام الديمقراطي والإطار السياسي الحديث للكيان السياسي؟ الإجابة الاعتيادية هي الاكتفاء بإحدى بديهيات الفكر القانوني الحديث، أي اعتبار مفهوم الشعب مرتبطاً عضوياً بفكرة الدولة بمكوناتها المعروفة من إقليم ومجموعة انتماء ونظم دستورية. بيد أن هذه المقاربة تخفي إشكالات جوهرية في ما وراء بداهتها الصورية. والواقع أن أغلب المهتمين بالفكر السياسي يهملون الفرق بين رافدين نظريين متباينين لمفهوم «الشعب»: - الرافد التوحيدي الذي كرسه المفهوم التوراتي الموسوي لفكرة الشعب أي الأمة المصطفاة التي يحكمها قانون يضبط شؤونها التعبدية والعامة، مما تم تحريفه في ما بعد في تصور قبلي مغلق للشعب اليهودي المنتخب «المختار». - الرافد اليوناني الذي كرسه مفهوم «الديموس» أي الجمهور الذي يتمتع بحق المشاركة السياسية ضمن نظام تداولي حر قائم على النقاش العمومي. والفرق جلي بين التقليدين، لكن من غير الدقيق اعتبار الرافد اليوناني هو المرجعية البعيدة للديمقراطيات الشعبية الحديثة. وكان فيلسوف الديمقراطية الحديث الأبرز «جان جاك روسو» قد نبه في كتابه «العقد الاجتماعي» إلى أن ثنائية الحكم والتشريع تعود إلى الخلفية الموسوية، مما تناوله من بعد العالم النفساني الأشهر «فرويد» في كتابه المثير «موسى والتوحيد». وما يستخلص من قراءتيْ روسو وفرويد على اختلافهما في المنهج والغاية هو أن فكرة الشعب تقتضي الرمز المقدس الذي يتماهى معه الجمهور السياسي والنص الذي يشكل الخلفية المرجعية لشؤون الجماعة المنظمة. ومن هنا ندرك علاقة مفهوم الشعب بالعديد من المفاهيم المحورية الأخرى مثلاً القوانين والتاريخ والمنظومة القيمية الجماعية أي ما يسمى اليوم بالثقافة. وباستكناه هذه الأبعاد، يتبين أن مفهوم الشعب بدلالته الحديثة هو من آثار الرافد التوحيدي الذي سعت إيديولوجيات النهضة الأوروبية إلى إخفائه في ادعائها الزائف التواصل المباشر مع المرجعية اليونانية التي لا يتجاوز فيها مفهوم الشعب مبدأ المشاركة المباشرة في الميدان العمومي (ما سماه بنجامين كوستان حرية الأقدمين). ففكرة الذاتية الفردية المتمتعة التي هي أساس التصورات الليبرالية والديمقراطية الحديثة لا تنتمي للأفق اليوناني، بل تنتمي للتقليد التوحيدي، باعتبار أن مفهوم الوعي وما يتصل به من تصور للحرية كمفارقة لا معنى له إلا ضمن منظور لاهوت الخلق وعقيدة الإله الخالق المطلق المفارق للطبيعة وللبشر. وعندما أرادت الحداثة السياسية الجمع بين التقليدين التوحيدي واليوناني في فكرة الشعب أي الجمع بين «الديموس» والأمة، كان لابد لها من الاتكاء على مفاهيم لاهوتية أخرى، أهمها مفهوم السيادة ومفهوم التمثيل. مفهوم السيادة كما كرسه «بودين» ومن تبعه مفهوم يعود إلى السياق اللاهوتي، وليس سوى نقل مباشر لصفات «الرب المطلق» إلى الدولة بصفتها حسب تعبير هوبز «إلهاً فانياً». أما فكرة التمثيل التي هي الأرضية النظرية لمفهوم «الشعب» فهي ترجمة مباشرة لعقيدة «التجسد» المسيحية باعتبار أنها الثمن النظري لتحول الجمهور المشتت في أهوائه المتمايزة في إراداته وأصناف وعيه إلى كيان عضوي له إرادة مشتركة وهوية جامعة. ومن الواضح أن الحداثة السياسية سارت في المسلك التوحيدي في تصورها المرجعي القائم على أسبقية القانون على السياسة، أي القول بأن القانون هو الذي يؤسس المجال السياسي على عكس التصور اليوناني الذي ينظر للسياسة بصفتها من المقومات الجوهرية الطبيعية للإنسان. على أنه لابد من التنبيه إلى الاختلاف الجلي في تصور القانون بين السياقين: الشرع الإلهي المُنزل والقانون العقلاني الوضعي، وإن كانا يلتقيان في نهاية المطاف في مرجعية «الحق الطبيعي» سواء نظر إليه كعادات وأسباب (لاهوت طبيعي أو مقاصد شريعة) أو نظر إليه كقوانين عقلية كلية بالمفهوم الكانطي أو كحصيلة الفاعلية التداولية والنقاش العمومي الحر (النظريات التواصلية والبراجماتية المعاصرة). وقد سبق للفيلسوف الألماني- الأميركي «ليو شتراوس» أن بيّن في نص بعنوان «أثينا والقدس» (استخدم عبارة أورشليم) أن الحضارة الغربية تشكلت من عنصرين متمايزين لا يمكن التوفيق بينهما هما: التوراة والفلسفة اليونانية. وقد اعتبر «ليو شتراوس» أن تاريخ الفكر الغربي في مجمله هو محاولة فاشلة مستمرة للتوفيق بين الرافدين اللذين لا يمكن الجمع بينهما. فإذا كان الأمر الأساسي الأوحد بالنسبة للفلسفة اليونانية هو «انتظام العيش وفق مبدأ الفهم المتميز عن كل تبعية»، فإن الأمر الأساسي الأوحد بالنسبة للتقليد التوراتي هو «الانتظام وفق مبدأ طاعة المحبة». وإذا كان شتراوس قد انتهى إلى تفضيل العقلانية الكلاسيكية المتصالحة مع الوحي المقدس والقائمة على تصور مسبق للخير الجماعي أي النظر للشعب كمفهوم عضوي وليس كحصيلة مسار إجرائي تعاقدي، إلا أنه أدرك أن هذا التصور لم يعد ملائماً للمجتمعات الليبرالية الحديثة القائمة على التعددية القيمية بثمنها العدمي الذي لا مناص منه. وللشعب اليوم دلالتان كبيرتان: الشعب- المبدأ أي الشعب ككيان معياري هو مرجعية الشرعية الديمقراطية وإن كان من الصعب تجسيده ولو عبر آليات التنظيم السياسي المتاحة (الانتخاب). والشعب كمجموعة سياسية متعينة تتأرجح بين الجمهور في فرديته والكيان المتمحور حول أطر اجتماعية ناظمة. ويمكن القول إن مقياس الأحكام الديمقراطية هو النجاح في التجسيد الموضوعي (عبر مؤسسات لا يمكن أن تكون مكتملة) للشعب بمفهومه المعياري المرجعي في نظم سياسية ينعقد عليها الحد الأدنى من التوافق والإجماع. وبدون هذا التحدي الذي اعتبره روسو «من المعجزات الخارقة» يظل من حق المتصارعين في حلبة السياسة الحديثة باسم الشعب لإسقاط الحكام أو الاستماتة في تقديسهم والدفاع عنهم.