رغم الالتزام الأميركي بمساعدة المعارضة السورية والوقوف إلى جانبها ضد نظام الأسد، تبقى تلك التعهدات مجرد كلام أكثر منها فعل على أرض الواقع. فبدون تقديم دعم حقيقي للمعارضة والاكتفاء بخطابات الدعم والمساعدة، سيؤدي ذلك إلى تنامي قوة بعض الجماعات الهامشية والمتطرفة في الشمال السوري. وإذا ما استمر هذا الأمر لفترة أطول فإن تحذيرات وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، من اختطاف الثورة السورية على أيدي المتطرفين ستتحول إلى حقيقة. فخلال زيارة قمت بها مؤخراً إلى الشرق الأوسط استغرقت ثلاثة أسابيع، عاينت تطورات إيجابية، كما وقفت على مؤشرات مقلقة، وقد حرصت خلال الزيارة على تفقد الوضع السوري عن كثب، حيث عرجت على حلب، كبرى المدن السورية ومركزها الصناعي، وذلك لرؤية كيف يتأقلم السوريون مع الفوضى والعنف المنتشرين في البلاد، وبخاصة في حلب حيث يخضع 75 في المئة من المدينة للثوار. وفيما توقعت أن أجد سكاناً مدنيين لا قِبل لهم بتسيير شؤون المدينة المترامية الأطراف، وأن أعاين مظاهر الفوضى والعجز عن تحمل أعباء المدينة، وجدت في المقابل إدارة مدنية على درجة من التعقيد والتطور، فالمجلس الثوري الانتقالي في حلب يدير المدينة بحوالي 23 عضواً يتشكل أغلبهم من خبراء تخرجوا من الجامعات، ولاستعادة بعض الخدمات الأساسية إلى المدينة وتلبية احتياجات السكان في المناطق المحررة، شكل المجلس 12 لجنة تغطي كافة المتطلبات تقريباً، من فرض الأمن والقانون، إلى التعليم والإشراف على المخابز، وتنسيق أعمال الإغاثة وغيرها من الأمور، بل حتى الجانب الطبي تولى المجلس الثوري الإشراف عليه من خلال إدارة ثمانية مستشفيات تقدم العلاج للمصابين. وقد انبهرت بمدى تنظيم وحرفية الأشخاص الذين التقيت بهم، وإصرارهم على استخدام عبارة «انتقالي»، في احترام واضح لما ستسفر عنه صناديق الاقتراع بعد سقوط النظام وانتهاء الفترة الانتقالية. أما على الجانب العسكري فقد تكتلت فصائل الثوار المختلفة قبل عدة أشهر في إطار المجلس العسكري الثوري الذي يدير العمليات العسكرية التابعة للجيش الحر في حلب تحت قيادة منضبطة للعقيد عبد الجبار العقيدي. لكن اللافت أن المجلس ورغم محاولات توحيد صفوفه لطمأنة العالم الخارجي والحصول على المساعدات، ما زلت موارده قليلة للغاية، وبسبب القواعد المعقدة المرتبطة بوصول الإمدادات إلى سوريا، فإنهم يحصلون على كميات محدودة من الذخيرة يتوصلون بها على فترات متباعدة بالكاد تكفي لمواجهة قوات النظام. وفيما تشكل فصائل الجيش السوري الحر 80 في المئة من الثوار الذين رفعوا السلاح ضد النظام، يتوزع الباقي على بعض الجهات المتطرفة، وإلى جانبها عصابات سعت للاستفادة من حالة الفوضى السائدة في البلاد. والمشكلة أن الجهود المدنية المبذولة في حلب لإدارة شؤون المدينة وتوفير الرعاية الصحية وباقي الخدمات، ثم إجبار الفئات المتطرفة من المعارضة على اتباع الخط العام، تواجه العديد من الصعوبات بسبب شح الموارد، لذا ورغم محاولات اللواء أديب الشلاف المنشق عن جيش النظام في تشكيل قوة شرطة مدنية لفرض الأمن في حلب، يبدو أنه يعاني مشاكل كبرى في إطعام جنوده، فما بالك بتوفير الزي والراتب، حيث أطلعني أنه غير متأكد من قدرته على الاستمرار في محاولاته، بل الأكثر من ذلك بدأت بعض كتائب الجيش السوري الحر، مثل كتيبة حلب الشهباء تفكر في حل نفسها لعدم توافر المال والسلاح. وفي هذا السياق أخبرني قائد الكتيبة أن «جبهة النصرة» اتصلت برجاله لإقناعهم بالانضمام إليها، لاسيما وأن هذه الأخيرة تحظى بتمويل سخي ولديها تنظيم تسعى إلى توسيعه بتجنيد عدد أكبر من الثوار في صفوفها، ويكمن تفوقهم الوحيد على باقي الفصائل في قدرتهم على مد مجنديهم بما يعجز عنه الآخرون، وهو الرواتب والسلاح. ومع أن الولايات المتحدة أدرجت الجبهة على لائحة المنظمات الإرهابية، فإنه غابت عن إدراكها حقيقة أن معظم من التحقوا بهذا التنظيم المتطرف إنما انخرطوا فيه لتوفيره السلاح والمال. ولعل ما يثبت ذلك لقائي بمجموعة منهم في نقطة تفتيش أثناء مروري بشمال سوريا، حيث استوقفنا مجموعة من الشباب الملتحي، ولدى سؤالهم عن سبب انضمامهم إلى «جبهة النصرة» أجابوا بأنهم يريدون السلاح لحماية أسرهم، بل إن أحد الرجال أبدى تعاطفه مع الطائفة العلوية، قائلا إنه لا يكن أي عداوة تجاههم وأن معركته مع نظام الأسد! وإذا كانت الولايات المتحدة جادة فعلا في قطع الطريق على التنظيمات المتشددة ومنع تجذرها في أوساط الثوار، فلا مناص من تقديم المساعدات الفعلية، ولا يوجد توقيت أفضل لذلك من فصل الشتاء الحالي الذي يعاني فيه السوريون من أوضاع إنسانية ومعيشية صعبة، فمن شأن الدعم الميداني والحقيقي أن يساعد السكان على إدارة شؤونهم في المرحلة الانتقالية وترجيح احتمالات تحول سوريا بعد الأسد نحو الديمقراطية. -------- محمد علاء غانم قيادي في «المجلس السوري الأميركي» -واشنطن -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»