التمزق الاجتماعي بين مواطني بعض الدول يمثل مشكلة تاريخية، وهي معضلة قديمة وحديثة في وقت واحد، وهذه قضية مفصلية في بناء الدول الحديثة. وفي ظل العولمة، وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي وسقوط جدار برلين، ظهرت النزاعات العرقية والمذهبية بين أبناء الوطن الواحد، وشهد العالم رغبة نحو التقوقع على الخصوصية الثقافية، وهو تعبير عن خوف من اندثار الهوية الخاصة لأي مجموعة تعتقد أو تقتنع بفكر مذهبي أو تنتمي إلى عرق معين، تشعر بالقلق على خصوصيته الثقافية، وخصوصاً إذا ما صاحب ذلك تراجع وضعف في الدولة المركزية. والسلطة المستبدة كثيراً ما تلجأ للعب في مثل هذه الانقسامات وقد تغذيها على اعتقاد أن تفريق أبناء المجتمع الواحد يقوي من سلطتها وكثيراً ما تؤدي مثل هذه السياسات إلى نشوب نزاعات مذهبية وعرقية تنهك المجتمع وتعطل عجلة التطور. واليوم نجد العراق على سبيل المثال يعيش حالة توتر واحتقان في ظل ديمقراطية يفترض فيها أن تقنن الصراع، وتدفع بسياسات جديدة تقوي دولة المواطنة، إلا أن ذلك لم يحدث، بل على أرض الواقع نجد أن الديمقراطية عمقت الانقسامات الاجتماعية، وتحولت إلى مشروع يفتت المجتمع ولا يخلق الاندماج الاجتماعي. وفي مصر هناك خوف من تفرد حركة «الإخوان المسلمين» بالحكم، وخوف من تكرار مشهد الانقسام في ظل التحول الديمقراطي. ومصدر هذا الخوف يتجسد في التوجس من قيام الدولة الدينية التي يرى البعض أن هنالك مسعى من قبل بعض القوى السياسية لإقامة دولة دينية قد تضر بمكونات من المجتمع. وليس موضوعنا هنا مناقشة الدولة الدينية نفسها بقدر ما نعتقد أن مجتمعاتنا العربية عاشت مراحل مختلفة من القهر الاجتماعي، وأن حركات التحرر العربية لم تستطع تقديم بدائل فاعلة لنقل مجتمعاتنا نحو التقدم، بل لقد ساهمت بتعزيز قيم الاستبداد، وضيعت طاقات البشر وأهدرت كثيراً من الإمكانات المعنوية والمادية. واليوم لا يمكن لأي تنظيم أو سلطة أن يحدث التغيير ويحقق التنمية دون أن يضع حقيقة التعددية في المجتمع البشري، وإنه لا مفر في ظل التعددية سوى بناء دولة المواطنة التي تعزز الاندماج الاجتماعي وتعزز قوة السلطة ولا تنقص من هيبتها. ودولة المواطنة، هي الدولة التي لا تنقص حق الإنسان، وتحافظ على كرامته، فالدولة لجميع مواطنيها وليست لمجموعة أو حزب. وهي الدولة التي يتحقق فيها الحفاظ على حقوق المواطنين دون استثناء، حقوقهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية، وهي الدولة التي تستطيع أن تنحو نحو مشروع التقدم الذي يدفع المجتمع نحو تعاضد الجهود لتحقيق الهدف المشترك فيما بينهم. فعندما نقول المواطنة هي الحل فذلك لكونها الطريق السالكة نحو العدالة الاجتماعية ودولة القانون وتكافؤ الفرص والشعور بالطمأنينة، وكلها قيم تحقق الراحة النفسية للإنسان وتجعله يعضد جهود الدولة، عندما يجد أنها تحقق الخير العام لكافة المواطنين. والمواطنة هي الحل شعار يجب أن يتبناه الجميع لأجل القضاء على حالة التمزق الاجتماعي التي تشهدها مجتمعاتنا، فالدول ليس أمامها سوى تعزيز قيم المواطنة، وأما المراهنة على التوظيف السياسي للانقسامات المجتمعية فهي مراهنة خاسرة في ظروف تشهد فيها منطقتنا العربية حالة من الانفلات والفوضى التي تقوض ركائز الدول. المواطنة هي الحل هو الشعار الذي يجب أن يرفع ولا نذهب بعيداً عما يكتبه التاريخ، فالأحداث القريبة والبعيدة تؤكد دائماً أن الدول إذا ما اختارت اللعب بالتقسيمات الاجتماعية، فهي تنزلق بنفسها نحو الهاوية، فمن يقف معها اليوم، قد يقف ضدها في اليوم التالي، والحسابات بهذا المعنى حساسة، ولعلنا نعي الحقيقة ويكف بعض دولنا العربية عن اللعب في النسيج الاجتماعي لمجتمعاتنا.