لاشك أنّ ما يسمى «الربيع العربي» وما أعقبه من عدم استقرار سياسي في معظم البلدان العربية قد أُشبع بحثاً وتمحيصاً من قِبل الباحثين العرب. كما انغمس هؤلاء الباحثون في دراسة تداعيات ظهور أحزاب وجماعات مسيّسة تتقمّص الرداء الإسلامي كي تحصل على دعم الناخبين في الانتخابات التي أعقبت هذه الثورات. وربما كان هناك اهتمام على مستوى بعض البلدان العربية بدراسة الآثار الاقتصادية على هذه البلدان، وهجرة بعض رؤوس الأموال منها نتيجة لعدم الاستقرار السياسي. فالرابط بين السياسة والاقتصاد رابط وشيج، غير أنّ ما تهتم به هذه المقالة هو تداعيات عدم الاستقرار السياسي في بلدان المشرق العربي على واردات الغذاء من الفواكه والخضار المصدّرة من هذه البلدان إلى بلدان الخليج العربية. ولاشكّ أن بلدان الخليج تعتمد اعتماداً وثيقاً على سلة غذاء عريضة تمتد من الهند شرقاً وحتى مصر والسودان والصومال والحبشة غرباً. فمن الهند وباكستان، تشتري دول الخليج العربية احتياجاتها من الأرز، ومن بلدان الشام الخضار والفاكهة، وكذلك الحال مع مصر، أما السودان والصومال وبقية بلدان شرق أفريقيا، فتصدّر المواشي من أغنام وإبل إلى بلدان الخليج العربية، وخاصة حين يزداد الطلب على المواشي خلال شهر ذي الحجة من كل عام، حين لا تكفي هذه الواردات، فتضطرّ هذه الدول إلى استيراد بعض احتياجاتها من الماشية من أستراليا ونيوزيلاندا وبعض بلدان قارة أميركا الجنوبية. وفي المقابل، تشتري البلدان المحيطة بالخليج النفط والغاز وترسل عمّالها للعمل في دول الخليج العربية. ومثل هذا التبادل الاقتصادي يصبّ في مصلحة الجميع، البلدان المصدّرة، والبلدان المستهلكة. غير أنّ مثل هذه المعادلة تهتزّ بشكلٍ عميق، إذا حدثت تغيّرات هيكلية في المنطقة وغيّرت من طبيعة الأنظمة السياسية فيها. فمنطقة الخليج تعدّ سوقاً دولية مهمة، وهي تستورد قرابة 700 مليار دولار من السلع والخدمات من البلدان الأخرى، وهناك تنافس حميم بين البلدان المصدّرة لهذه السوق، فبينما تستحوذ الصين على 7 في المئة منها، والهند على 6 في المئة، فإنّ حصة اليابان 8 في المئة، والاتحاد الأوروبي 22 في المئة، والولايات المتحدة 11 في المئة، بحسب الإحصاءات المتاحة. وسوق الخليج سوق ضخمة، في المقام الأول، للأجهزة والآلات والسيارات 37,5 في المئة، غير أنها كذلك سوق لا بأس بها للخضراوات والفاكهة 8,1 في المئة، بما تقدر قيمته بحوالي 25 مليار دولار سنوياً. والعلاقة بين التجارة البينية، الإقليمية منها والدولية، وربطها بالأحداث والمتغيرات السياسية، علاقة مهمة. وقد تعرض بعض الباحثين لتأثير الأحداث الاقتصادية على مثل هذه التجارة. فقد وجد الباحث نادر حبيبي في عام 2011 علاقة مهمة بين حرب تحرير الكويت وواردات دول الخليج العربية من الولايات المتحدة، كما وجد نفس الباحث علاقة معتبرة لتراجع واردات بلدان الخليج العربية (عدا الكويت) في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. وفي الوقت الحاضر، فإن الأحداث السياسية في سوريا والدمار الهائل الذي أعقب عدوان قوات بشار على الشعب السوري، قد حوّل هذا الشعب من شعب مصدّر للغذاء، إلى شعب يتطلّع إلى الدول العربية والأجنبية للحصول على احتياجاته من الغذاء والكساء. ولم تعد المزارع والقرى السورية قادرةً على إمداد المستهلكين في منطقة الخليج العربي باحتياجاتهم من خضار المائدة، والفواكه، كما تقلّصت صادرات الدول الأخرى المجاورة لسوريا والعابرة للحدود السورية إلى بقية البلدان العربية، ما دفع بأسعار الغذاء والفاكهة إلى الوصول لأسعار فلكية، ضاعفت من الأسعار السابقة مرات عديدة. ومثل هذه التطورات قد تدفع بدول مجلس التعاون إلى التفكير مليّاً في استزراع مناطق جديدة قريبة من منطقة الخليج العربي، سواءً في أفريقيا، أو في وسط آسيا، أو في غيرها من البقاع الخصبة، لاستزراعها بالخضار والفاكهة المصممة أصلاً للتصدير إلى بلدان الخليج. ومثل هذا التصوّر ليس جديداً، فبعض تجار الأرز الخليجيين يملكون مزارع في الهند وباكستان، أو يرتبطون بعقود زراعية مع بعض المزارعين في هذه البلدان. وهناك تجار فواكه سعوديون يملكون مزارع للفواكه في تشيلي بأميركا الجنوبية. وهناك خطط لا زالت حبيسة الأدراج منذ عام 2008، لاستزراع مناطق خصبة في شرق أفريقيا بالقمح والأرز وغيرها من المحاصيل الزراعية. وقد وقعت بعض دول الخليج اتفاقيات مع هذه الدول، وتحتاج هذه الاتفاقيات إلى التنفيذ. فتوفير الأمن الغذائي وبأسعار مناسبة هدف كل زعيم سياسي أو تنفيذي في العالم العربي. ومثل هذا الهدف يمكن تحقيقه عبر آليات حكومية، وخاصة. وهناك على مستوى جامعة الدول العربية تجربة ناجحة لشركة عربية متخصصة في إنتاج الدواجن اللاحمة، ولها مزارع ضخمة في عدد من البلدان العربية، إلا أنّ معظم إنتاجها يستهلك محليّاً في بلد الإنتاج. ومثل هذه الآليات التي تساعد على زيادة الاستثمار الزراعي في دول الجوار العربية منها، والأفريقية، تشمل أبعاداً سياسية وقانونية ومالية. ومن ذلك على سبيل المثال، تشكيل شركة تمويل خليجية لدعم مثل هذه المشروعات الزراعية، وأخرى لضمان الاستثمار، وربما تكون مشتركة مع البلدان المضيفة. ومثل هذه المشاريع ستكون مفيدة لكلا الطرفين، الخليجي منه والمستضيف، حيث ستخصص حصص من الإنتاج للتسويق في البلد المضيف. وربما ساعدت في ذلك زيادة حجم رحلات الشحن الجوية بين هذه البلدان، وبلدان الخليج العربية. فبعض البلدان الأفريقية تنتج في الوقت الحاضر كمّاً لا بأس به من الفاكهة، غير أنه لا يمكن تصديره بشكلٍ مباشر إلى منطقة الخليج العربي، بسبب عدم توافر رحلات جوية مباشرة بين الجانبين. وبلدان الخليج العربية تتوافر في الوقت الحاضر، ولله الحمد، على احتياطي نقدي ضخم، وقد آن الأوان لتوظيفه في مشاريع زراعية تنموية، تخفف من الضغط الحالي على مصادر المياه في بلدان الخليج نفسها، وتؤمِّن لمواطني الخليج احتياجاتهم من الخضراوات والفاكهة واللحوم، وغيرها من المنتجات الزراعية والحيوانية بأسعار مقبولة.