واستمر أحد أساتذة الجيل الثالث في استئناف رسالة الجيل الأول والجيل الثاني في «مشروع التراث والتجديد». فقد بدأ بعلم أصول الفقه كما أوصى مصطفى عبدالرازق ونبهه على ذلك ماسنيون في «مناهج التأويل في علم أصول الفقه». كما بدأ في نفس الوقت بالظاهريات التي استمع إليها من زكريا إبراهيم أول مرة في «من تأويل الظاهريات إلى ظاهريات التأويل» مع بول ريكير. واكتشف «أزمة العلوم الأوروبية» لهوسرل و«انهيار الغرب» لشبنجلر، و«قلب القيم» لشيلر في نفس الوقت الذي كان يريد فيه تحويل الإسلام إلى منهج إسلامي عام بعد أن أثر فيه الأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال من خلال عثمان أمين. تصور مشروعه «التراث والتجديد» من جبهات ثلاث: «موقفنا من التراث القديم»، و«موقفنا من التراث الغربي»، و«الموقف من الواقع» أو «نظرية التفسير». الأولى تعيد بناء العلوم القديمة، من لحظة الانتصار إلى لحظة الانكسار، ومن الفتوحات إلى الانهيارات، علم كلام جديد في «من العقيدة إلى الثورة» دفاعاً عن الأرض والإنسان والتاريخ، وعلوم حكمة جديدة في «من النقل إلى الإبداع» دفاعاً عن الإبداع الفلسفي، وعلم أصول فقه جديد في «من النص إلى الواقع» دفاعاً عن الاجتهاد والمصالح العامة، وعلوم تصوف جديد في «من الفناء إلى البقاء» مغيراً التوكل والرضا والخوف والغيبة إلى الرفض والمعارضة والنفي والمقاومة والثورة. ويضع لأول مرة العقل في العلوم النقلية الخمسة كي يحولها إلى علوم نقلية عقلية بعد أن تركها القدماء علوماً نقلية خالصة، كي يأتي جيل رابع فيحولها إلى علوم عقلية خالصة. والجبهة الثانية «الموقف من التراث الغربي» تتعرض للوافد الجديد كما تعرض الحكماء للوافد القديم ترجمة وشرحاً وعرضاً وإبداعاً. وتحويل الغرب من كونه مصدراً للعلم كي يصبح موضوعاً للعلم. ويؤسس «علم الاستغراب» لكي يرد الغرب إلى حدوده الطبيعية، وإثبات تاريخية الفلسفة الغربية، والتخلص من عقدة النقص تجاهها، وتطهير الغرب من عقدة العظمة تجاه غيره من الثقافات. وألّف في ذلك «فشته، فيلسوف المقاومة» و«برجسون، فيلسوف الحياة»، و«قضايا معاصرة»، الجزء الثاني «في الفكر الغربي المعاصر»، و«دراسات فلسفية»، الجزء الثاني «في التراث الغربي». وترجم «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط» (أوغسطين، أنيلم، توما الإكويني)، و«رسالة في اللاهوت والسياسة» لاسبينوزا، و«تربية الجنس البشري» لليسنج، و«تعالي الأنا موجود» لجان بول سارتر. والجبهة الثالثة «الموقف من الواقع» أو «نظرية التفسير» تحاول التنظير للواقع تنظيراً مباشراً دون رؤيته من خلال تأويل نص قديم من الموروث أو نص جديد من الوافد، وإبداع نص جديد يعبر عنه حتى لا تقتصر مهمة الفيلسوف على التأويل للنصوص القديمة أو الحديثة، من الموروث أو من الوافد. وفي نفس الوقت يتحول «التراث والتجديد» من خطاب علمي برهاني موجه إلى الخاصة إلى خطاب ثقافي عام موجه إلى جمهور المثقفين حتى تتسع قاعدة المشروع، ويتحول إلى ثقافة وطنية. حدث ذلك في «قضايا معاصرة» (جزءان)، في فكرنا المعاصر، وفي الفكر الغربي المعاصر، ثم في «دراسات إسلامية»، و«دراسات فلسفية» ثم في «هموم الفكر والوطن» (جزءان) في «التراث والعصر والحداثة»، وفي «الفكر العربي المعاصر»، ثم في «حصار الزمن» (ثلاثة أجزاء)، حصار الثقافة العربية بين الماضي والحاضر والمستقبل. ويتوجه للقارئ الأوروبي بالإنجليزية في «الإسلام في العصر الحديث» (جزءان)، الأول «الدين والأيديولوجيا والتنمية»، والثاني «التراث والثورة والثقافة». وأيضاً في «الثقافات والحضارات، في حوار أم في صراع؟» (جزءان)، الأول في «الفكر المتوسطي» والثاني في «الحوار الديني والإبداع الثقافي». وفي نفس الوقت يخاطب العامة، الجمهور العريض حتى لا يستأثر به مشايخ الفضاء والدعاة القدماء والجدد وذلك في «الدين والثورة في مصر (1952-1981)» (ثمانية أجزاء): الدين والثقافة الوطنية، الدين والتحرر الثقافي، الدين والنضال الوطني، الدين والتنمية القومية، الحركات الإسلامية المعاصرة، الأصولية الإسلامية، اليمين واليسار في الفكر الديني، اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية. كما خاطب الجمهور العربي الواسع في «وطن بلا صاحب، عرب هذا الزمان»، و«نظرية الدوائر الثلاث»، قراءة معاصرة بعد نصف قرن (جزءان) مصر والعرب، مصر والعالم، و«من مانهاتن إلى بغداد»، و«جذور التسلط وآفاق الحرية». كما أسس منبراً شعبياً للمشروع هو النشرة غير الدورية «اليسار الإسلامي». ثم بدأ الجيل الثالث ينزوي داخل الأكاديمية الخالصة إما في الموروث تحقيقاً ودراسة أو في الوافد ترجمة وبحثاً، وذلك مثل فتح خليف ونشر «كتاب التوحيد» للماتريدي وكتاب «الصابوني» ثم استقراره في قطر، ومحمود زيدان في فلسفة العلوم. وآثر البعض التحول من الإعارة المؤقتة إلى الهجرة الدائمة، وتحولت الفلسفة من رسالة إلى وظيفة، ومن أمانة إلى مهنة، ومن قضية إلى حرفة. ينعزل عن القضايا العامة ويقتصر دوره في التدريس الجامعي. ثم جاء الجيل الرابع، الجيل الحالي، بعد أن انتهت المدارس الفلسفية أو كادت، وغابت سنة الرائد والشيخ والمعلم. تغيرت ظروف ثورة 1919 إلى ثورة 1952. وبدأ المثقفون يتساءلون «ما الذي حدث للمصريين؟» ويجيب الأدباء «يحدث في مصر الآن». انتهى العصر الليبرالي، واستقلال الجامعات بعد الثورة المصرية في 1952. وتبنت الدولة أيديولوجية معينة فرضتها على الجامعات. وانتهت حرية الفكر منذ حركة التطهير داخل الجامعة مرتين الأولى في 1954، والثانية في سبتمبر 1981. ففرغت الجامعة من أساتذتها أصحاب القضايا والاختيارات الوطنية. وفرضت الرقابة. وعيّن رؤساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام. وفرضت مواد قومية لا يؤمن بها أحد مثل «المجتمع العربي» أو «الاشتراكية» و«التدريب العسكري». وأصبحت مثل «التربية الدينية» في المدارس. واستأثرت الدولة بالمواقف الفكرية والسياسية. وأصبحت الحقيقة معروفة سلفاً وليست موضوعاً للبحث. وأعطيت الأولوية للخبز على الحرية مع أنه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». وبدأت ظواهر جديدة في الجامعة: الكتاب المقرر، المذكرات «المشفرة»، الحفظ والتحصيل والنقل، توزيع الكتب، وقيام البعض بالنشر والتوزيع على نفقتهم الخاصة، والسعي وراء الإعارات خاصة في شبه الدول العربية الغنية حيث ترتفع الأجور. انتهت التيارات والمواقف الفلسفية. وأصبحت الرسائل العلمية بلا إضافات علمية جادة. وظهرت السرقات العلمية في الأعمال المقدمة للجان العامة للترقيات. أصبح الفقر وضرورة رفع الدخول لمواجهة أعباء المعيشة الموجه الرئيسي للجامعة. وظهرت مؤلفات في علم النفس الإسلامي، وعلم الاجتماع الإسلامي، وعلم الاقتصاد الإسلامي، وفي الفقه الإسلامي، وفي الشريعة الإسلامية، وفي القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف من أجل تجديد العقود. وأصبح الأستاذ يحمل هم سكنه ومعاشه وعربته وتوفير وسائل المعيشة لأولاده من بعده. أما المستقبل فمرهون بمستقبل البلاد. وكما بدأت فكرة الجامعة المصرية في أذهان المصلحين، محمد عبده وقاسم أمين ونشأت بفضل ثورة 1919، وبدأ الانهيار إبان نصف قرن أو يزيد من الثورة المصرية في 1952 بتموجاتها المختلفة في الجمهوريات الثلاث فإن مستقبلها مرهون بعودتها إلى الجامعة الوطنية، تحمل هموم الفكر والوطن في آن واحد. ما زالت الخطورة ماثلة أمامها في الخصخصة بعد أن نشأت الجامعات الخاصة، والساعات المعتمدة، وأسطورة الجودة، وفرض المصاريف، على المصريين والعرب. ما زال دور الجامعة في المستقبل مرهوناً بتكوين المفكر الحر والمواطن الصالح، المفكر الحر ضد التقليد، والمواطن الصالح ضد التبعية قبل أن تتحول رسالتها من النقل إلى الإبداع، ومن إعادة بناء العلوم القديمة إلى تأسيس العلوم. مهمتها القيام بالنقد، نقد الأنساق القديمة الموروثة، والجديدة الوافدة لإرساء قواعد الفكر العقلاني النقدي، والبداية بالسؤال قبل الجواب، وبأن الحقيقة إلى الأمام وليست إلى الخلف، للبحث عنها وليس لتبريرها. مهمتها حمل هموم الفكر والوطن، وفك حصار الزمن بين الماضي الذي ما زال يشد، والمستقبل الذي ما زال يدفع، والحاضر الذي لا يجد من يتفاعل معه. العقل في حاجة إلى انتفاضة قبل الواقع، والوعي في حاجة إلى عودة مُثل الروح. وتنتهي اللغة المزدوجة بين السر والعلن، بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة. حينئذ يعود للفلسفة دورها، وتتنوع المدارس الفكرية، وتظهر التيارات والاتجاهات الفلسفية كما كانت عند الأجيال الثلاثة الأولى.