منذ منتصف شتاء عام 2011 ودول الحراك العربي تعرف حالات تحول سياسي واجتماعي متواترة، على خلفية الاحتجاجات الواسعة التي عرفتها مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا، وأدت حتى الآن إلى سقوط نظم مبارك وبن علي والقذافي، وانتقال السلطة في اليمن، فيما يوشك نظام الأسد على السقوط. وقد أدى هذا الحراك الذي أصبح اليوم يسمى في التداول الإعلامي بـ«الربيع العربي»، إلى توقعات وأحلام وردية في الإعلام الغربي، خاصة مؤداها أن تلك الدول باتت موعودة بعهد جديد من الديمقراطية والتغيير السياسي من شأنه علاج كافة مشكلاتها الهيكلية السياسية والاقتصادية التي كانت قائمة في عهد النظم السابقة. وقد ترتب على روح التفاؤل المفرطة تلك صدور عدد كبير من الكتب في فرنسا، وأوروبا عموماً، في بدايات الحراك العربي، ثبت أنها قد بنيت على معطيات خاطئة، وتفكير رغائبي يعبر عن الذات الغربية، أكثر مما يصف الموضوع، أي الحراك العربي نفسه. ولكن ذلك الحماس الغربي للربيع العربي تراجع أيضاً بسرعة مع ظهور نتائج بعض الاستحقاقات الانتخابية في دول الحراك العربي، واستمرار حالات الاحتقان والتجاذب الحاد في تلك الدول بين مختلف الكتل السياسية، وأحياناً أيضاً بين الطوائف والفئات الاجتماعية، هذا طبعاً دون إغفال اتساع حجم حضور بعض القوى المعروف عنها عدم وقوعها في هوى الديمقراطية، وإن حاولت الآن ركوب موجتها، وادعاء وصل بها، لا شيء يثبته أصلاً في أدبياتها وممارساتها التنظيمية. ولذا سرعان ما ظهرت أيضاً، في المقابل، كتب أخرى غير احتفالية تقارب ظاهرة الثورات العربية بروح موضوعية وبقدر من المحايدة والانفكاك من التفكير الرغائبي سمح لها بوصف ما يجري بالفعل، وأخذ مسافة أمان منه، تسمح برؤيته في عمومه، ووضعه في سياقه، والحكم عليه من واقع ما هو كائن، لا بما ينبغي أن يكون. ومن هذا النوع من الكتب الأخيرة، يأتي كتاب "الوجه الخفي للثورات العربية" الذي صدر في الرابع من الشهر الجاري في فرنسا، وهو عمل أكاديمي وبحث ضخم يقع في 528 صفحة، اشتركت فيه نخبة من المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط يصل عددها إلى 23 مشاركاً، من كُتاب ومفكرين وضباط استخبارات سابقين ودبلوماسيين، ينتمون إلى عدد كبير من الدول. وقد تولى الإشراف على إنجاز هذا الكتاب وتنسيق جهوده البحثية المؤلف الفرنسي "ريك دونيسيه" من المركز الفرنسي للبحوث الاستخبارية. ويسعى مؤلفو هذا الكتاب لكشف ما يعتبرونه جوانب خفية فيما جرى خلال ثورات دول الحراك العربي، مشيرين إلى أنه كانت هنالك فعلاً في تلك الدول مظالم اجتماعية واقتصادية، وجمود سياسي، وعدم فاعلية في جهود التنمية، وتهالك في البنى التحتية، وبالنتيجة كان هنالك أيضاً استياء عام من النظم السابقة، ولكن هذا يبقى في النهاية جزءاً فقط من القصة، وسبباً من الأسباب التي أدت لسقوط النظم السابقة، ولكنه ليس كل الأسباب، بل لقد لعب التضليل والتضخيم الإعلامي دوراً في التعجيل بحسم المواجهة، حيث لعبت بعض القنوات الفضائية، والضغوط الخارجية، دوراً مؤثراً كذلك، عجل بإنضاج المخاض، وسد أبواب أية حلول أخرى كان من الممكن التفكير فيها، غير إسقاط تلك النظم. وقد بُني هذا الكتاب في الأصل على بحثين استقصائيين أنجزا أساساً عن حالتي الصراع المسلح العنيف في كل من ليبيا وسوريا، ولكن فيما بعد تقرر توسيع وحدة الاهتمام لتشمل جميع حالات بلدان الحراك العربي الأخرى، بغية تفكيك وتحليل الأسباب التي أدت إلى الثورات أولاً، ووصف النتائج التي تكشفت عنها ثانياً، وصولاً إلى استقراء أفق حال التغيير العام والوقوف على شرفة المستقبل، في نهاية المطاف. وقد بين المشرف العام على العمل أن النتيجة التي توصل إليها الباحثون هي، بالمختصر المفيد، أن الفاعلية الاستثنائية لأدوات وتقنيات التأثير على الرأي العام، كان لها الدور الأكبر في إسقاط النظم السابقة في دول الحراك العربي، وبعد كل تلك الحركات الاجتماعية والتحولات السياسية والاستحقاقات الانتخابية اللاحقة التي سجلت فيما بعد يمكن القول أيضاً إن ما تكشف عنه "الربيع العربي" يبدو حتى الآن نتيجة مخيبة لآمال من كانوا يتوقعون موجة تحول ديمقراطي تشهدها تلك المنطقة، خاصة أن القوى التي ركبت موجة التغيير ليست عادة قوى ديمقراطية، هذا زيادة على افتقار كثير منها للخبرة والتقاليد السياسية والإدارية التي تسمح له بتسيير الشأن العام. ولعل ما يشهده بعض دول الحراك العربي الآن من احتقانات واختناقات سياسية واجتماعية وصراعات عارمة تجري تحت سقف مفتوح ودون أفق نهاية منظور يعد دليلاً آخر على مصداقية تلك الخلاصات والتعميمات التي توصل إليها مؤلفو هذا الكتاب. حسن ولد المختار الكتاب: الوجه الخفي للثورات العربية المؤلفون: مجموعة مؤلفين الناشر: أليبس تاريخ النشر: 2012