ونحن نستعد في الولايات المتحدة للاحتفال بنهاية 2012 وبداية عام جديد يجب التذكير، بعد مرحلة الانتخابات الرئاسية التي جرت وعودة قضية الهجرة إلى الواجهة كموضوع مهم ضمن الحملات الانتخابية، أن 2012 سجلت الذكرى 150 لصدور أول "قانون شامل للهجرة" المسمى قانون تعمير الأرض للعام 1862، وذلك على حد توصيف المؤرخ "بليك بيل" من المتحف الأميركي لتعمير الأرض التابع لخدمات المتنزه الوطني -وهو إحدى المؤسسات العامة التي لا ينبغي أبداً الاقتراب من موازنتها السنوية لما تسديه من خدمات جليلة للجمهور، في مجال التاريخ والإرث الثقافي الأميركي- فبحلول سنة 1862 بما تمثله في التاريخ الأميركي من أهوال الحرب الأهلية، وخصوصاً معركة "شيلوه" التي دارت في السنة نفسها، كان يمكن التغاضي عن الكونجرس إذا ما هو انصرف إلى معالجة الجراح العميقة، وتعضيد اللحمة الوطنية بعد سنوات من المعارك الضارية التي كادت تمزق الولايات المتحدة، ولكنه مع ذلك وفيما كان يتحدى الظروف لاستكمال بناء قبة الكونجرس، كان أيضاً يواصل عملية بناء الأمة، من خلال مجموعة من المشاريع المهمة، مثل إصدار قانون مد السكك الحديدية التي ستصل بموجب القانون إلى الولايات الغربية، وتمكن الناس من الانتقال بسهولة على امتداد الساحل الغربي، بالإضافة إلى قانون "موريل" الذي أفضى إلى إنشاء معاهد زراعية لاستغلال الأرض والنهوض بالقطاع الزراعي، والأهم من كل ذلك قانون تعمير الأرض الذي كانت بنوده سهلة وواضحة بقدر استجابتها لمشكلات العصر الصارخة، فما نسميه اليوم في أميركا بالسهول العظمى التي تمتد على مساحات واسعة من الغرب الأميركي كانت بعد الحرب الأهلية مجرد صحراء جرداء ليتغير ذلك كلياً في السنوات القليلة اللاحقة. فبموجب قانون تعمير الأرض يمكن استغلال 160 فداناً من الأراضي الخصبة مقابل رسوم لا تتجاوز 18 دولاراً لتتحول ملكية الأرض بعد خمس سنوات إلى الطرف المستغل، وإذا كان هذا الأخير قادراً على الدفع يمكنه امتلاك الأرض كلية بعد ستة أشهر إن هو دفع 1,25 دولار للفدان الواحد، ويمكن للجنود الذين يخدمون في الجيش الاتحادي أن تُخصم المدة المطلوبة لاستغلال الأرض من الوقت الذي يقضونه في الجندية، وكان الهدف الأساسي من القانون هو جذب المهاجرين من خارج أميركا لتعمير الأرض واستيطانها، على أن يقود ذلك مع نهاية السنوات الخمس إلى اكتساب الجنسية؛ فإلى غاية صدور القانون كانت مسألة الهجرة واللوائح المنظمة لها خاضعة كلياً لسلطة الولايات المنفردة، وكما جاء في شهادة أحد مسؤولي الهجرة خلال تلك الفترة بولاية نيويورك أمام الكونجرس، فقد تحولت الهجرة الأوروبية إلى عمل موسمي، بحيث يفد المهاجرون من القارة العجوز في أشهر الربيع للعمل وتحسين معيشتهم، ثم يشدون الرحال عائدين إلى أوروبا بحلول الخريف دون دفع ضرائب ما يؤثر سلباً على الرواتب المحلية، ولذا جاء قانون التجنيس لعام 1802 الذي فرض على المهاجرين لدى دخولهم التراب الأميركي حصولهم على شهادة فيها إقرار منهم بأنهم جاؤوا بنية البقاء، وبعد خمس سنوات يمكن للمهاجر أن يحمل الوثيقة إلى أقرب محكمة ومعه شاهدان للحصول على الجنسية دون مشاكل، بحيث يبدو أن القانون جاء ليهدئ مخاوف المسؤولين من أن أوروبا لن تعمد إلى إرسال أسوأ ما لديها من أشخاص إلى أميركا من المتمردين وغير المرغوب فيهم. وبحلول 1850 كانت الرقعة الأميركية قد توسعت بعدما اكتسبت الولايات المتحدة أرضاً جديدة في الغرب من خلال حربها مع المكسيك، وعلى رغم ما ينطوي عليه هذا التوسع من إشكالات أخلاقية وسياسية، إلا أن المحصلة كانت زيادة في مساحة أميركا، الأمر الذي استدعى مزيداً من السكان لاستغلال الأرض وتعميرها، وفي هذا السياق يعتبر المؤرخ "بيل" أن قانون التعمير كان بمثابة قانون للهجرة لأنه أعطى الحق لمستغل الأرض في اكتساب الجنسية بعد خمس سنوات من انتهاء مدة استغلال الأرض، وبمقتضى قانون التعمير الذي استمر العمل به في ولاية ألاسكا حتى عام 1986 تم تخصيص أكثر من 270 مليون فدان من الأراضي مُلكت لمستغليها، بما يقارب 422 ألف ميل مربع، أي بمساحة تفوق بضعفين ولاية كاليفورنيا. وحسب الأرشيف لم يكن المهاجرون وحدهم هم الذي أقبلوا على الاستيطان في الأرض وزراعتها بالشروط التفضيلية التي منحها القانون، بل سارع إلى الاستفادة منها أيضاً التجار والمضاربون وشركات مد السكك الحديدية، وغيرها من أصحاب المشاريع، ذلك أنه من أصل 500 مليون فدان، تم توزيعها إلى حدود 1904، فإن 80 مليوناً منها فقط ذهبت إلى الأفراد والعائلات، سواء القادمة من خارج أميركا، أو تلك التي جاءت من الشرق الأميركي، أو ولايات أخرى بحثاً عن الفرص. ويبدو أن المزارعين الصغار استفادوا في القرن العشرين أكثر مما فعلوا خلال القرن التاسع عشر، ولعل الدليل الأبرز على تأثير قانون التعمير في ضخ دماء جديدة وسواعد من الخارج في النسيج الأميركي ما تشير إليه الإحصاءات من أنه بحلول 1870 كانت نسبة السكان، ممن ولدوا خارج أميركا 39 في المئة من سكان وايومينج ومونتانا، و34 في المئة من سكان نبراسكا. واليوم وفيما يرى البعض أن القانون الذي عمر أرضاً فارغة في الماضي غير مجدٍ اليوم، فإنه وفي ظل الأعباء الاجتماعية التي تتحملها الدولة بسبب شيخوخة السكان، فإن علينا التفكير مرة أخرى في الهجرة كأداة لتعزيز القوة العاملة. جورج ويل كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"