تدل التقارير التي نقلتها وسائل الإعلام المختلفة بشأن استخدام نظام الأسد في سوريا لصواريخ سكود، والقنابل العنقودية، بالإضافة إلى غازات سامة، ضد تجمعات سكانية، مما خلف عدداً من القتلى في صفوف المدنيين... يدل ذلك على مدى اليأس الذي بلغه الجيش التابع للنظام والتململ الذي باتت تعيشها الآلة العسكرية، إذ لا يمكن لجيش نظامي جدير بهذا الاسم، يمتلك أسلحة ومعدات ثقيلة وقوات منظمة على أحسن مستوى، أن يلجأ إلى استخدام أسلحة ثقيلة وصواريخ لا تفرق بين عسكري ومدني، إلا إذا كان فقد السيطرة الأمنية على الأرض وبات قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة. وهو ما يبدو أن الجيش السوري قد بلغه بعد شهور من مواجهة الثوار في أماكن متفرقة، وفتحه لجبهات متعددة أرهقت قوته وحمّلته الكثير من الأعباء. وفي الوقت الذي تتسارع فيه الأحداث الميدانية، ويحقق فيه الثوار اختراقات مهمة على أرض المعركة، وفيما تتصاعد مخاوف المجتمع الدولي من استخدام الأسلحة الكيماوية التي يملكها النظام، بدأت القوى الدولية، ومن بينها روسيا، تفكر في مستقبل البلاد بعد سقوط النظام وتطرح السيناريوهات الممكنة، كل حسب مصالحه الخاصة، لتتحول سوريا إلى ساحة كبرى للصراع بين القوى الدولية الباحثة عن نفوذ، أو تأثير في المعترك السوري والتهيأ لما بعد الأسد. والسؤال الرئيسي الذي يطارد المراقبين والدول الكبرى، هو: ماذا ستكون عليه سوريا بعد انهيار النظام، لاسيما أن جل التقديرات ترى في سقوطه أمراً حتمياً، وإن استغرق أسابيع أو ربما شهوراً قليلة؟ ولعل ما يعقد الوضع السوري أكثر هو تعدد فصائل المعارضة التي تحمل السلاح من جهة، وكثرة الطوائف والأقليات المتوجسة على مصيرها في المرحلة المقبلة من جهة ثانية. ومن بين السيناريوهات التي راجت خلال الفترة الأخيرة، لجوء النظام وأركانه إلى المناطق الساحلية، حيث الكثافة العلوية، لإقامة كيان خاص يتم الدفاع عنه بما تبقى من الأسلحة والموالين للأسد، إلا أنه من غير المرجح أن يتحقق هذا الخيار بالنظر إلى حجم الدماء التي أريقت في سوريا، وتورط النظام في جرائم مروعة، كما لن يقبل الثوار بفرار الأسد وبقائه داخل سوريا بعد مقتل أكثر من 40 ألف شخص طيلة الشهور الماضية، وإذا كان الأمر ما زال سهلًا على الأسد لترك البلاد والاحتماء في الخارج هو وعائلته، إلا أن الخوف كله يكمن فيما ينتظر الأقليات التي لن تستطيع مغادرة البلاد. والأمر هنا لا يقتصر على العلويين المتوجسين من الثورة والمستقبل، بل ينسحب الخوف على المسيحيين القلقين من تولي الإسلاميين للسلطة بعد سقوط الأسد وتأثير ذلك على وضعهم في وقت تمتعوا فيه بنوع من الأمن في ظل نظام الأسد. ويبقى التطور اللافت هو ما حصل على الجبهة الكردية، حيث تمكنت فصائل المعارضة الكردية في سوريا من توحيد مواقفها، وإنهاء الصراع الذي نشب بين الثوار في أماكن معينة، بل تمكنوا من استقطاب الدعم التركي ومساندة منطقة كردستان العراق، وهو ما يعكس التعاون المستجد بين تركيا وأكراد العراق، وتقاربهم على خلفية القلق التركي المتصاعد من الوضع في بغداد، والميول الديكتاتورية للمالكي. هذا التقارب التركي الكردي يندرج على ما يبدو في إطار تنسيق المواقف وتهيئة الوضع لمرحلة ما بعد الأسد. لكن ماذا سيحصل لأنصار الأسد بعد مغادرته لسوريا؟ روسيا التي دعمت حتى الآن النظام دبلوماسياً، وربما حتى بالسلاح، يعيش الآلاف من مواطنيها في سوريا، وهو ما دفعها إلى التصريح بأن موعد إجلاء رعاياها قد لا يكون بعيداً، كما أن المصالح الروسية في سوريا معروفة، وعلى رأسها القاعدة التي أنشأها الاتحاد السوفييتي على الساحل السوري، باعتبارها أول قاعدة عسكرية له في المياه الدافئة التي طالما سعت روسيا إلى امتلاكها. لذا ستسعى روسيا في الأخير، على غرار إيران، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصالح، والخروج بأقل الخسائر الممكنة. أما على الجانب الآخر، حيث تصطف أميركا وفرنسا وبريطانيا وبعض الدول العربية، فإن الوقت قد حان لتقديم دعم أكبر للمعارضة بعد توحيدها مؤخراً بهدف تعزيز حظوظ العناصر المعتدلة في صفوف المعارضة، ومنع المتشددين من ملء الفراغ في المرحلة المقبلة، لكن من غير المتوقع أن يصل الدعم إلى إرسال جنود إلى الساحة السورية عدا ربما دعم فكرة إقامة منطقة لحظر الطيران تسهر تركيا بالخصوص على ضمانها. كما أنه من غير المتوقع أن تعمد الدول العربية إلى المشاركة العسكرية المباشرة في في الحرب الدائرة، لتبقى تركيا البلد الإقليمي الوحيد المهيأ لدخول المعركة، وإن كان الحكومة في أنقرة ترفض ذلك بشدة، لأنها تعرف جيداً بأن انخراطها المباشر في الصراع السوري لن يصب في مصلحتها. وبالطبع سيكون لسقوط الأسد تداعيات كبيرة على الإقليم، لاسيما لبنان، حيث يتمتع "حزب الله" بثقل وازن في الحياة السياسية، فبرحيل الأسد عن السلطة سيخسر "حزب الله" حليفاً قوياً وداعماً صلباً كان يفتح له الطريق أمام المساعدات القادمة من إيران، والتي ستتأثر سلباً بسقوط النظام حيث ستفقد إطلالة مهمة على البحر الأبيض المتوسط، وسيتراجع نفوذها في الشرق الأوسط. بيد أن تداعيات الصراع السوري لا تقف عند لبنان، بل تمتد أيضاً إلى الحدود الجنوبية مع إسرائيل، فرغم احتلال الدولة العبرية للمنطقة الجنوبية لسوريا، ظلت منذ سبعينيات القرن الماضي تنعم بالهدوء، فهل تتحول الجولان إلى منطقة شبيهة بسيناء المصرية، وتصبح مرتعاً للتهريب وتناسل التنظيمات المتشددة؟ دون أن ننسى الحدود الأخرى مع الأردن والعراق اللذين سيعملان في المرحلة المقبلة على التأسيس لعلاقات قوية مع الحكام الجدد في دمشق لحفظ الأمن على الحدود وضمان الاستقرار في المنطقة. أمام هذه السيناريوهات والأسئلة المفتوحة، سيظل من الصعب التنبؤ بما سيؤول إليه الوضع في سوريا بعد الأسد، وإن كان الأكيد أنها ستبقى طرفاً أساسياً في لعبة الصراع بالشرق الأوسط.