لم يكن العالم في مسيس الحاجة إلى التصوف، بشتى صوره ودروبه التي عرفتها الأديان جميعاً، أكثر من أيامنا هذه، حيث بلغ الظمأ الروحي أشده، وانطمر الوجدان تحت الاتكاء المفرط على البرهان المبني على العقل والنقل والتجربة، وزاد تشيؤ الإنسان، مع توحش الرأسمالية، وانتشار ثقافة السوق، واحتدام الصراع حول المنافع والمكاسب المادية والنفوذ والجاه والمناصب، وتحول التدين إلى مجرد طقوس وأفعال مادية بحتة تؤدى بطريقة آلية لا ورع فيها ولا خشوع، ولا تبصر أو تدبر، وانجذب من كان عليهم أن يرعوا الأخلاق الحميدة والفضائل إلى السلطة، وراحوا يتخففون من الأحمال العقدية والدعوية والتربوية، وتحول أغلبهم من دعاة للدين إلى فتنة في الدين، وعلاوة على هذا أخفقت كل جولات الحوار، سواء على خلفية الدين أو الثقافة أو الحضارة، لأن الجميع يكتفي بالنظر تحت الأقدام. لقد انجرت الأديان إلى حلبة الصراعات السياسية منذ زمن بعيد، لكن هذا الانجرار تعمق في العقود الأخيرة، بعد أن كان كثيرون قد ظنوا أن الفصل بين الدين والسلطة بات أمراً لا يحتاج إلى جدل لكل من يروم المدنية والتحديث، ويغار على عقيدته من أن تستعمل أداة في تصفية خصومات دنيوية وصراعات رخيصة على كراسي الحكم والتحكم. فدراسات عدة انتهت إلى القول بأن الدين بات عنصراً أساسياً في الصراع الدولي، لاسيما بعد أن غربت شمس الاتحاد السوفييتي، وهناك نظم سياسية لا تزال متمكسة بـتحويل الدين إلى أيديولوجيا وجعل رجاله لهم سلطان على ما عداهم، ومؤسسات دينية راحت تمارس ضغوطاً على القرار السياسي حتى في أنصع الديمقراطيات، وبعض الساسة يستخدم إشارات وتعبيرات دينية كمساحيق تجميل تخفي قبحه، وتخدع من ينصتون إليه ويرونه. وعلى الجانب الآخر، هناك من ظن أن بوسعه أن يحبس الدين بين جدران المساجد والكنائس والمعابد، ويرتب معيشة الدنيا على قيم وأفكار وتصورات ومعان مغايرة، أنتجتها الحكمة الإنسانية الخالصة، وفرضها التطور المادي الناجم عن التفاعل الخلاق بين البشر والطبيعة عبر التاريخ الطويل. ولم ينعم أصحاب هذا الاتجاه بما للدين من دور لا غنى عنه في بناء المجتمع. فبين هذين النقيضين يسري التصوف كالنسيم العليل الذي يزيح أمامه غبار التكالب على مغانم الدنيا، أو النور الذي ينبثق فيبدد الظلام الحالك الذي يجثم على النفوس والأبدان. لكن أي تصوف: هل هو الدروشة التي تجعل أصحابها يهيمون على وجوههم فوق الدروب والشوارع؟ أم الطرق الصوفية التي يخلط بعضها الدين بالفلكلور والبذل بالنفع؟ أم هو الانقطاع عن الناس في صوامع أو زوايا بذهن منصرف إلى التأمل في الملكوت الأعلى، ولسان يلهج بالتسابيح؟ في الحقيقة فإن ما نقصده هنا باستدعاء التصوف لإنقاذ البشرية مما آلت إليه، ليس سوى استدعاء للإيمان العميق الرائق الذي يروي ظمأ الروح، وينير ظلمات النفس، ويطلق طاقة الخير لدى الإنسان، فيلمسها من حوله في أفعاله وأقواله. وهنا يبدو التصوف مرادفاً للإيمان الخالص، الذي يذهب إلى اللباب، وينفذ إلى الجوهر متخففاً من المظاهر الجوفاء، ويميل إلى صحبة الأولياء تاركاً الأدعياء. ومثل هذا التصوف يقوم على أركان محددة، نستقيها مما تركه لنا كبار المتصوفة من أحوال ومقامات وأذواق ومواجيد. ويمكن ذكر هذه الأركان على النحو التالي: 1 - إن الله أقرب إلينا من حبل الوريد، بقدرة متسامية يمكننا أن نشعر بها وندرك جلالها وجمالها، إن جاهدنا الشهوات، وانتصرنا على نقائصنا. والله هو خالقنا، ورحمته وغفرانه وسع كل شيء وكل أحد، ولا يجوز لنا أن نصادر على مشيئته بفرض دينه على خلقه أو إعطاء أنفسنا حق محاسبتهم في الدنيا، وتقرير مصائرهم في الآخرة. 2 ـ إن الكون أوسع بكثير مما نتصور، وعلى الإنسان أن يتواضع على قدر استطاعته، فهو لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولًا، ولذا عليه أن يؤمن بأنه في حاجة دائمة إلى رعاية الله وتعاون البشر. 3 ـ إن الأخوة الإنسانية أصل، ويجب ألا يتصارع البشر أو يتنازعوا على زينة الحياة الدنيا، بل تربط بينهم المحبة والتراحم والتكافل والتسامح، وهي القيم النبيلة والعميقة التي تسعى الأديان إلى ترسيخها، وتنشغل برعايتها دوماً. 4 ـ يعزف التصوف على وتر إنساني مشترك، بل متوحد، وهو المشاعر، التي تتوزع بين الحب والكره، والخير والشر، ويتشابه الناس ويتطابقون في هذا، ويتواشجون في رباط متين. ويشهد تراث الإنسانية على أن ما كان بين قيس وليلى لا يختلف أبداً عما بين روميو وجولييت. وانجذاب الإنسان إلى حب الله، الذي هو جوهر التصوف، يعد طاقة أوسع وأعمق وأسمى من عاطفة بين رجل وامرأة، لكنها مثلها تتطابق من حال إنسان إلى إنسان، وتتوحد عند الأولياء وغيرهم من المنشغلين بالوصول إلى الحقيقة السرمدية، بعد أن تنبو عن الاختلافات الفقهية المشبعة بالتفاصيل والإجراءات والطقوس، التي فرقت بين أديان سماوية أصلها واحد، ومنبعها وحيد. 5 ـ إن الإنسان في حاجة ماسة إلى الكثير من أركان التصوف، فالزهد ثروة، إذ يجعل الزاهد مترفعاً عن الدنايا، ويقيم ظهره ويقويه في وجه كل من يسعى إلى استعباده بالمال أو المنصب والجاه، والمحبة واجبة حيال الله والبشر والأشياء، ليس حب التملك الغارق في أنانية مفرطة، بل الحب المفضي إلى الإيثار والمفعم بالغبطة والامتنان والسعادة. والحدس نعمة يمنحها الله لعباده على قدر محبته لهم، إذ بها يتجاوزون حدود المحسوس، وينعمون بالإلهام الذي يدركون به على نحو أفضل ما يجري، ويمتلكون القدرة على تلمس التباشير وحيازة النبوءة.