أطلقت منظمة الصحة العالمية مؤخراً، بالتعاون مع جامعة «جون مورز» في مدينة ليفربول البريطانية، تقريراً من ثمانية أجزاء، بعنوان «منع العنف: الأدلة والبراهين» (Violence prevention: the evidence). وكما يدل عنوانه، يهدف هذا التقرير إلى إظهار فعالية الإجراءات والتدابير الهادفة إلى منع العنف، سواء كان العنف موجهاً من شخص إلى شخص آخر، أو مجموعة من الأشخاص، أو من نفس الشخص ضد جسده وذاته، كما في حالات الانتحار، أو إيذاء النفس، وهو ما يعرف بالعنف الذاتي (self-directed). وترجو المنظمة من إظهار فعالية الإجراءات المانعة والواقية من العنف، أن توفر التوجيه والإرشاد لواضعي السياسات، وللجهات الراعية والممولة لبرامج منع العنف والوقاية منه، بالإضافة إلى مطبقي ومنفذي تلك السياسات والبرامج، وهو ما من شأنه أن يزيد من وقع وتأثير جميع تلك الجهود. ويعود أخذ منظمة الصحة العالمية بزمام المبادرة في قضية العنف، إلى كونه أحد أكبر مشاكل الصحة العامة، على جميع المستويات، المحلية، والإقليمية، والدولية. حيث تشير الإحصائيات إلى أن العنف يتسبب في وفاة 1,5 مليون شخص سنوياً، 50 في المئة منهم بسبب الانتحار وهو أحد أكبر وأخطر مظاهر العنف الذاتي، و35 في المئة آخرون بسبب جرائم القتل، بالإضافة إلى 12 في المئة كنتيجة مباشرة للحروب والصراعات المسلحة. وبخلاف هذا العدد الهائل من قتلى العنف سنوياً، يقدر بأن لكل حالة وفاة من جراء العنف بجميع أنواعه، هناك أيضاً عشرات الإصابات التي تتطلب خطورتها وحدَّتها حجز المصابين في المستشفيات، بالإضافة إلى مئات الزيارات لأقسام الطوارئ بالمستشفيات، والآلاف من زيارات الأطباء لاحقاً لمتابعة وعلاج آثار العنف طويلة المدى. حيث غالباً ما يؤدي التعرض للعنف لتبعات سلبية عديدة، جسدية ونفسية، كما يمكن للعنف أن يعيق التطور الاقتصادي والاجتماعي للشخص، ويؤثر سلباً على قدرته على التواصل مع الآخرين والقيام بدوره في المجتمع بشكل كامل. فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة سابقة صدرت عن منظمة الصحة العالمية، أن العنف ضد الأطفال، وخصوصاً الاعتداء الجنسي، يعتبر مسؤولا عن 6 في المئة من جميع حالات الاكتئاب بين البالغين، وعن 6 في المئة من إدمان الكحوليات والمخدرات، وعن 8 في المئة من محاولات الانتحار، وما بين 10 إلى 27 في المئة من الاضطرابات النفسية المختلفة. وعلى المنوال نفسه، أظهرت دراسات أخرى وجود علاقة قوية بين العنف البدني والاعتداء الجنسي على الأطفال، وبين العديد من السلوكيات الصحية الضارة، مثل التدخين الشره، والسمنة المفرطة، والاستهتار في العلاقات الجنسية، وهي السلوكيات المعروف عنها زيادة احتمالات الإصابة بعدد من الأمراض الخطيرة. وتعرف منظمة الصحة العالمية العنف بأنه: «الاستخدام المتعمد للقوة بجميع أشكالها، سواء كمجرد تهديد، أو كتنفيذ فعلي، ضد شخص ما، أو مجموعة من الأشخاص، أو مجتمع برمته، مما ينتج عنه، أو يحتمل بشكل كبير، أن يؤدي إلى إصابة، أو وفاة، أو أذى نفسي، أو حرمان وتجريد، أو إعاقة للتطور بجميع أشكاله». ويلاحظ هنا أن هذا التعريف يركز على التعمد وسبق الإصرار في تعريف العنف، وبغض النظر عن النتيجة النهائية التي تصدر عن فعله. وهو ما يعني أن القيام بفعل متعمد لإيذاء شخص آخر، أو حتى تهديده بالإيذاء، يعتبر مظهراً من مظاهر العنف، حتى ولو لم يؤدِّ هذا إلى إيذاء فعلي للشخص المقصود. ويأخذ العنف أشكالا ومظاهر متعددة؛ منها العنف الشخصي الموجه ضد شخص بذاته كما في جرائم السرقة والاعتداء الجنسي، أو العنف المجتمعي الموجه ضد أفراد المجتمع بدون تمييز، كما في الحروب والجرائم الإرهابية، أو أن يكون العنف بدنياً من خلال الضرب والقتل، أو أن يكون عنفاً نفسياً من خلال السب اللفظي أو التهكم والتحقير، أو عن طريق الأفعال التي تسبب الضيق والإحراج والإهانة للطرف الآخر، سواء كان ذلك أمام آخرين أو خلف أبواب مغلقة. ويعتبر الاعتداء الجنسي أحد أكثر مظاهر العنف الشخصي انتشاراً، حيث تشير الإحصائيات إلى أن 5 في المئة من النساء البريطانيات تعرضن للاغتصاب في مرحلة ما في حياتهن، وفي الولايات المتحدة تتعرض امرأة للاغتصاب أو للاعتداء الجنسي كل دقيقتين، وهو ما يترجم إلى أكثر من 350 ألف اغتصاب سنوياً، تنتج عنها 32 ألف حالة حمل غير مرغوب فيه. ومن الممكن منع العنف والوقاية منه وتجنب تبعاته الصحية والاقتصادية، حيث تظهر البراهين والأدلة وجود علاقة قوية بين مستويات العنف وبين العديد من العوامل القابلة للتغيير، مثل الفقر المتركز في العشوائيات ومدن الصفيح، وفقدان العدالة الاجتماعية وعدم المساواة بين الجنسين، والاستخدام المفرط للكحوليات، وغياب العلاقة السليمة بين الآباء وأطفالهم، وهي العلاقة التي يفترض فيها أن توفر لهؤلاء الأطفال الأمن والأمان، والحب والمودة والرحمة، مما يؤهلهم لأن يكونوا لاحقاً أفراداً ملتزمين وفاعلين في مجتمعاتهم. وتظهر الأدلة العلمية، وبغض النظر عن مظهر العنف أو شكله، نجاح وفعالية الاستراتيجيات المعتمدة على مواجهة ومعالجة الأسباب الحقيقية، في خفض معدلات العنف والتقليل من تبعاته السلبية.