لو لم أكن أقيم في بريطانيا منذ عام 1980 لقلتُ إن هذه من علامات الساعة، وقد تكون كذلك، ولعل خلاص البريطانيين يكون في عام 2013 على يد العالم العراقي جميل الخليلي الذي يعتبر من ألمع علماء بريطانيا. آلاف الرسائل التي ظهرت في الإنترنت بمناسبة اختيار الخليلي لرئاسة «الجمعية الإنسانية»، تبدو كصراخ طالبي الخلاص يوم المحشر. انطلقت الرسائل إثر مقالة في «الجارديان» للكاتبة الإنجليزية بولي توينبي عنوانها «الملحدون أفضل في السياسة من المؤمنين». أعلنت توينبي في المقالة نهاية فترة رئاستها للجمعية التي تضم 30 ألف عضو، وذكرت أن الخليلي، الأستاذ المرموق في الفيزياء، والكاتب والإعلامي المعروف بأعماله في تبسيط العلوم، قد يجد فرصة أقوى لإسماع صوت اللادينيين الذين يمثلون ثاني أكبر كتلة في البلد. وبريطانيا في مأزق روحي تدعو لإنقاذها منه «الجمعية الإنسانية» التي تعمل حسب دستورها «نيابة عن الناس غير المتدينين الباحثين عن حيوات أخلاقية تقوم على العقل والإنسانية، ونشر المذهب الإنساني والموقف العلماني والتعامل المتساوي مع الجميع بغض النظر عن الدين والمعتقد». فالإحصاء الأخير للسكان كشف أن عدد المتدينين المسيحيين انخفض خلال العقد الأخير بمقدار أربعة ملايين، وقد يصبحون أقلية في بريطانيا عام 2018، فيما يتزايد عدد اللادينيين الذين يشكلون حالياً ربع السكان، وتضاعف عدد المسلمين خلال الفترة نفسها من مليون إلى نحو ثلاثة ملايين. ورَحّب الخليلي باختياره لرئاسة «الجمعية الإنسانية» التي يبلغ عمرها 116 عاماً إلا أنه نأى بنفسه عن السجالات حول الدين والإلحاد، وقال إنه «مثل كثير من اللادينيين تزعجه فكرة أن الناس بحاجة إلى معتقد ديني يهبهم بوصلة أخلاقية تهديهم إلى حياة جيدة»، وقال: «إن العقل والحشمة والتسامح والتعاطف والأمل مزايا بشرية يجدر بنا أن نطمح إليها، ليس بحثاً عن جزاء بحياة أبدية، أو خشية عقاب من قوة فوق البشر، بل لأنها تحدد إنسانيتنا». وموقف الخليلي مختلف من الدين الإسلامي، الذي يقول بصدده: «إنّ أحداً لا يستطيع فهم العلم العربي من دون الأخذ بالاعتبار مدى تأثير الإسلام على الفكر العلمي والفلسفي. لقد كان العلم العربي عبر عصره الذهبي متصلاً اتصالا لا ينفك بالدين». والعراق بالنسبة للخليلي مربط الروح؛ فيه ولد وترعرع حتى سن 16 حين غادر مع أسرته عام 1979 واستقر في إنجلترا حيث درس الفيزياء، ونال الدكتوراه عام 1989، وحصل على الأستاذية ورئاسة في «جامعة سَرِيْ »، وكرسي خاص استُحدث له عنوانه «تعريف الجمهور بالعلوم». واشتهر الخليلي بنشاطه الإعلامي في نشر العلوم، ومسلسلاته العلمية في الراديو والتلفزيون، ومُنِحَ «وسام الإمبراطورية البريطانية» (OBE)، وصدرت له كتب عدة في نشر العلوم؛ بينها «الكوانتوم: دليل في التعقيد»، و«نواة الذرة: رحلة في قلب المادة»، و«المستكشفون: العصر الذهبي للعلوم العربية». ومؤلفات الخليلي مترجمة إلى عشرين لغة، وبينها كتاب صدرت أخيراً طبعته الثانية بعنوان طويل «الثقوب السوداء، وثقوب الديدان، وآلات الزمان»، وهو مكتوب بحرص مدرس فيزياء يشرح نظريات إنشتاين لتلاميذ المدرسة، وتعتبر مجلة «نيوساينتست» كل صفحة من الكتاب تنضح حماساً لجعل كل شيء مفهوماً للأقل تعليماً. كتاب ناجح، وظريف، ويتضمن أحدث المعلومات. خزانة عظيمة للاستخدام المثمر والمنعش». وفي كتابه «بيت الحكمة» الذي يروي «كيف أنقذ العلم العربي المعرفة القديمة وأعطانا عصر النهضة»، ينقطع السرد التاريخي بمشهد امرأة تجمدت رعباً في مرمى قصف الطائرات الأميركية موقع السدة الهندية في العراق عام 1991. كان القصف بالنسبة لمعظم مشاهدي فضائية «سي إن إن» مشهداً آخر يصور فظائع الحرب في بلد بعيد، لكن الخليلي تعرّف فوراً على المكان الذي قضى فيه أسعد سنوات المراهقة، وكان يمر «ماشياً عشرات المرات في هذا الموقع الذي تجمدت فيه المرأة رعباً». ويختتم سرد ذكرياته الشيّقة عن رحلاته المدرسية والعائلية إلى آثار بابل، بالتنديد بقوات الغزو الأميركي «التي أزالت عام 2003 إحدى أثمن المواقع الأثرية في العالم لإنشاء مهبط للمروحيات ومرآب للشاحنات العسكرية الثقيلة». ويتدفق الخليلي بعاطفة مشبوبة في فصل من الكتاب عنوانه «الكيمياوي الوحيد» عن جابر بن حيان «الذي يُعتبر دون شك أحد أروع الشخصيات وأكثرها غموضاً في تاريخ العلم العربي». ولا ينظر الخليلي في تاريخ العلوم كمؤرخ، بل كعالم يكتشف أن «بن حيان أب لعلم الكيمياء» ويحسم بذلك النقاش المستمر منذ بن حيان (721 -815م). فآراء مؤرخي العلوم متضاربة حول بن حيان الذي ارتبط اسمه باستحالة المعادن إلى ذهب، أو ما يُسمى «الخيمياء». ويختتم الخليلي مراجعته النقدية لآراء المؤرخين بمقطع بالغ الجمال لابن حيان يرثي فيه حال الذين كرسوا أنفسهم لتحويل الفضة إلى ذهب ويعتبرهم «نوعين؛ المخادعين والمخدوعين». لغز التوليفة الجيوبوليتيكية، التي ولدت حضارات عظمى في العراق عبر الألفيات يضاهي « تسعة ألغاز عظمى في العلوم» التي يعرضها كتاب الخليلي «المفارقة». ويُخرج اللغزُ الخليلي عن النص، أو لعله يدخله عميقاً، حين يتحدث في كتابه «بيت الحكمة» عن مدينة الكوفة حيث عاش بن حيان، وولد والد الخليلي. يتناول ذلك في حديثه عن معضلة الأصول الأثنية لأبرز علماء عصر النهضة العربية الإسلامية في الطب والهندسة والرياضيات، كابن سينا، والخوارزمي، ونصير الدين الطوسي، وغيرهم الذين كتبوا مؤلفاتهم بالعربية، وعاش بعضهم شطراً كبيراً من حياتهم في العالم العربي. «وللتأكيد على مدى الصعوبة أحياناً في فرز جذور وأصول هؤلاء العلماء»، يعرض الخليلي سيرة أسرته نفسها التي يعود أصلها إلى طبيب إيراني اسمه ميرزا خليل كان في طريقه للحج، عندما صادف مروره ببغداد مرض الوالي فاستُدعيَ لتطبيبه. وعرض الوالي على ميرزا خليل الإقامة ببغداد في طريق العودة من مكة فوافق، وكان ذلك عام 1799. وينحدر الخليلي من ابنين لميرزا خليل، وبلغ جده لأمه ميرزا حسين الخليلي الذي عاش في النجف مرتبة «آية الله». واشتبكت أصول جميل نفسه بشكل بالغ التعقيد عندما التقى أباه أمه الإنجليزية خلال بعثته إلى بريطانيا لدراسة الهندسة. وعلى غرار سكان العراق القديم الذين كانوا يطلقون على أبنائهم اسمين مختلفين اتقاء العين الشريرة، يحمل الخليلي اسمين؛ جيم في بريطانيا وجميل في العراق. أَسَّرَتني بذلك والدته خلال محاضرته التذكارية في «الجمعية الملكية» بمناسبة منحه «وسام فارادي» عام 2008. وتطلّعت في وجه ابنها بشغف الأم، والتفتت تسألني باللهجة البغدادية «مو جميل»؟.. ماذا أقول، وقد حلق ابنها شعر رأسه بالموسى مثل كابتن بيكار، بطل مسلسل الفضاء «ستار تريك»... طبعاً جميل! وكل عام والعراق الجميل وأهله بخير.