لم يعد هناك شك في أن «الربيع» المصري، أو ما بدا أنه كذلك مساء يوم 11 فبراير 2011 ولأسابيع قليلة تالية، تحول خريفاً عاصفاً بعد إقرار الدستور الذي يعتبر أسوأ أزمة في تاريخ مصر الحديث منذ دستور عام 1923. فقد عصف هذا الدستور، الذي وجده المصريون أمراً واقعاً مفروضاً عليهم دون أن يعرف معظمهم ما يتضمنه، بعدد من حقوقهم الأساسية المكفولة في الدساتير السابقة كلها، وبصفة خاصة في دستور عام 1971. وهذه هي المفارقة الكبرى التي لم يتخيلها أحد يوم 13 فبراير 2011، عندما أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعطيل العمل بدستور عام 1971. كانت الآمال عريضة والأمنيات كبيرة في دستور أكثر تقدماً يليق بمصر ويقدم نموذجاً يعيد إليها الريادة التي كانت لها ذات يوم ويفوق في مزاياه دساتير عربية جيدة وبصفة خاصة دستور المغرب بعد التعديلات التي حدثت فيه العام الماضي. كان هناك ما يشبه اليقين بأن الدستور الجديد سيكون خطوة إلى الأمام وربما قفزة كبيرة. وكان الاعتقاد قوياً وراسخاً بأنه سيكون أول دستور مصري يشارك الشعب في إعداده ومناقشته، على نحو يخلق روحاً جديدة ويحقق المشاركة المجتمعية في تحديد اتجاه المستقبل على نحو لا سابق له في تاريخ البلاد. فلم تتوافر للشعب فرصة للمشاركة في صنع أي دستور سابق. كان الشعب مستقبلاً لوثيقة دستورية تهبط عليه من أعلى، وليس مساهماً في إعدادها من خلال متابعة أعمال من يضعون مشروعها والتفاعل معهم خلال فترة عملهم، ثم عبر إتاحة وقت كاف ونوافذ واسعة لمناقشة هذا المشروع في مختلف أوساط المجتمع قبل طرحه للاستفتاء العام. غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث رغم الضغوط الشعبية التي استهدفت تحقيقه. فقد تم احتواء هذه الضغوط عبر إنشاء لجنة للتواصل المجتمعي حول مشروع الدستور. لكن هذه اللجنة لم تكن أكثر من شكل للإيحاء بأن المجتمع يشارك في صنع مشروع الدستور. كما حُرم الشعب من أبسط حقوقه في الحصول على معرفة كافية بمشروع الدستور بعد انتهاء الجمعية التأسيسية منه. فلم يفصل بين تمرير المشروع كاملا وموعد بدء الاستفتاء عليه إلا 13 يوماً. فقد أُعلن مساء 30 نوفمبر الماضي تحديد هذا الموعد يوم 14 ديسمبر الجاري. ولا غرابة في ذلك، لأن الحكم الجديد في مصر استغل سيطرته على الجمعية التأسيسية التي يفترض أن تكون محايدة للانتهاء من إقرار الدستور قبل أن ينتبه معظم المصريين إلى الأخطار التي تنتظرهم فيه. وقد تحققت هذه السيطرة من خلال وجود أغلبية تنتمي إلى «الإخوان» والسلفيين وأحزاب وشخصيات تابعة لهؤلاء أو أولئك في الجمعية التأسيسية من ناحية، وعبر تعيين 22 من أعضائها في مناصب تنفيذية (وزراء ومحافظون ومستشارون في رئاسة الجمهورية). ولذلك حدث ما لم يكن متخيلا عندما صدر قرار تعطيل العمل بدستور عام 1971 يوم 13 فبراير 2011، وهو أن ذلك الدستور الذي أصبح سابقاً يعتبر أفضل من الدستور الجديد. وكثيرة هي الأدلة على ذلك، لكن أهمها ثلاثة لكل منها دلالة شديدة الخطر. أولها إلغاء الضمان الأساسي بل الوحيد للمساواة بين المواطنين في مصر، وهو النص على حظر التمييز بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. فقد خلت المادة 33 في الدستور الجديد (المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة) من هذا الضمان. ولذلك فقدت قيمتها الإلزامية للمشرع القانوني (البرلمان) وأصبحت أقرب إلى نص إنشائي عام لا يلزم من يسن القوانين بعدم جواز إصدار تشريع يتضمن تمييزاً بسبب الجنس (ضد المرأة) أو الأصل (ضد النوبيين مثلا) أو الدين (المسيحيين) أو العقيدة (الشيعة مثلا لأن قوى الإسلام السياسي في مصر لا تعتبرهم مسلمين). وهذه هي المرة الأولى التي يصدر فيها دستور مصري خالياً من حظر التمييز لأي من هذه الأسباب منذ دستور عام 1923 الذي كان هذا الحظر ضمن مبادئه العامة الأساسية التي وردت في صدارته (المادة الثالثة في ذلك الدستور). كما كان هذا الحظر منصوصاً عليه بوضوح تام في المادة 40 من دستور عام 1971. وهناك أيضاً التراجع عن المستوى المتقدم الذي بلغه دستور عام 1971 في ضمان حرية العقيدة، وحرية ممارسة الشعائر الدينية. فقد نص دستور عام 1971 في مادته السادسة والأربعين على أن «تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية». ومغزى هذا النص هو إلزام الدولة بضمان حرية العقيدة على إطلاقها بما يكفل عدم التمييز بين الناس بسبب اختلاف عقائدهم، وحرية ممارسة الشعائر الدينية للجميع أيضاً وليس لاتباع أديان دون أخرى. غير أن الدستور الجديد يحرم المواطنين، وغيرهم من المقيمين في مصر، مما أتاحه لهم الدستور السابق. فبدلا من أن تكفل الدولة حرية العقيدة صارت «حرية الاعتقاد مصونة». فلم تعد الدولة ملزمة بشكل صريح بأن تكفل هذه الحرية، لأن مؤدى النص الجديد هو عدم منعها فقط. فليس مطلوباً من الدولة إلا الامتناع عن اتخاذ إجراءات تحول دون حرية العقيدة، لكنها لم تعد ملزمة بضمان هذه الحرية ولا بحماية أي من المواطنين أو المقيمين إذا تعرض لاعتداء لسبب يتعلق بعقيدته. وبدلا من أن تكفل الدولة حرية ممارسة الشعائر للجميع بدون تمييز، أصبحت هذه الكفالة محصورة في الأديان السماوية دون غيرها. وعندما يحدث مثل هذا التراجع وغيره، ويُلغي في الوقت نفسه ما تضمنه دستور عام 1971 بشأن التزام مصر بالاتفاقات والمواثيق الدولية التي تصدّق عليها فتكون لها قوة القانون، يصبح الشعب محروماً من أي ضمان لحقوقه وحرياته، ومعّرضاً لتحكم أية أغلبية برلمانية في نمط حياته اليومية بدون حماية دستورية. ويزداد هذا الخطر في الدستور الجديد الذي يتضمن إمكان توقيع عقوبات قضائية بنص دستوري. فقد نص دستور عام 1971، كغيره من الدساتير على أن العقوبة لا توقع إلا بنص قانوني. وهذا أمر بديهي. لكن الدستور الجديد أتاح توقيع عقوبات بنص دستوري. وكان قليل من القضاة المصريين في العقود الماضية قد أصدروا أحكاماً استندت إلى أحكام فقهية بدعوى أن المادة الثانية في الدستور والخاصة بالشريعة الإسلامية تجيز ذلك. ولكن تلك الأحكام أُلغيت في الدرجة التالية من التقاضي. ولذلك أراد المهيمنون على الجمعية التأسيسية تمكينهم وغيرهم من تحصين مثل هذه الأحكام لتوقيع عقوبات لا ينص عليها القانون. ولن يكون ممكناً إلغاء العقوبات التي تخرج عن إطار النظام القانوني لأنها تستند إلى نص دستوري يبيح ذلك. وسيكون هذا مدخلاً إلى ارتباك في النظام القانوني المصري على نحو يمثل خطراً على العدالة وحقوق الناس. وهكذا جاء يوم يتمنى فيه المصريون الذين يدركون هذه الأخطار عودة دستور عام 1971 الذي أشبعوه قدحاً وذماً على مدى نحو أربعة عقود!