الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاندا إلى الجزائر يومي الأربعاء والخميس من الأسبوع الماضي، كان معلناً عنها منذ وقت طويل باعتبارها مهمة للغاية. وبالطبع، فهناك بعدٌ عاطفي لهذه الزيارة: ألم يكن الرئيس الفرنسي متدرباً شاباً مبتعثاً من «المدرسة الوطنية للإدارة» إلى الجزائر عام 1978؟ وأليست الجزائر هي البلد الذي استعمل فيه أولاند لأول مرة عام 2010 فكرة أن الفرنسيين يريدون «رئيساً عادياً»، وهي عبارة ساهمت كثيراً في نجاحه في انتخابات 2012؟ غير أنه لا يمكن أيضاً استبعاد الحلم التاريخي بأن يكون أولَ رئيس يحقق المصالحة الفعلية بين فرنسا والجزائر؛ البلدين اللذين تجمعهما، منذ ولادة الدولة الجزائرية في عام 1962 عقب حرب استقلال دموية، علاقة عاطفية تعرف مزيجاً من الرغبة والرفض، إذ أن كل واحد منهما هو رهينة النزاعات السياسية الداخلية للبلد الآخر. ذلك أن فاليري جيسكار ديستان، الذي يعتبر أول رئيس فرنسي زار الجزائر، لم ينجح في ذلك. ومن جانبه، لم يتمكن فرانسوا ميتران الذي جعل من الجزائر، إلى جانب المكسيك والهند، واحدة من البلدان الثلاثة التي تقوم عليها سياسية خارجية جديدة طموحة للعالم الثالث، من تحقيق نجاح أكبر. أما جاك شيراك، فقد تحطمت آماله بسبب اعترافه بالدور الإيجابي للاستعمار في 2005. غير أنه بين الحنين الشخصي والطموح التاريخي، هناك أهداف براجماتية ملموسة وممكنة أكثر بالنسبة لأولاند. ويتمثل الهدف الأول في إصلاح العلاقات التي تضررت خلال الرئاسة الفرنسية السابقة، رغم الإرادة الحسنة من جانب ساركوزي في البداية وأحلامه باتحاد متوسطي، إذ أصبح يُنظر إليه خلال النزع الأخير من رئاسته على أنه معاد للمسلمين والمهاجرين. ولم يكن من الممكن أن يؤدي ذلك إلا إلى صدى جد سلبي في الجزائر، وكذلك بين الفرنسيين المنحدرين من أصل جزائري، والذين صوتوا في معظمهم لمصلحة أولاند. والواقع أن أولاند أيضاً، وعلى غرار ساركوزي، لديه فكرة عن السياسة الخارجية باعتبار أنها لا يمكن أن تكون منفصلة عن هموم السياسة الداخلية وانشغالاتها. غير أن الرجلين لا يستخلصان منها النتائج نفسها. فالرئيس السابق كان يعتقد أن باستطاعته كسب الأصوات عبر وصم الفرنسيين المنحدرين من أصول مغاربية بوصمة سلبية، أما الرئيس الجديد فيعتقد أن بوسعه كسب الأصوات، ولكن من خلال تبني خطاب يعبر عن التهدئة والرغبة في العيش معاً. وفي هذا الإطار، نظر أولاند إلى الاعتراف بمسؤولية الدولة الفرنسية عن القمع الدموي لمظاهرة السابع عشر من أكتوبر عام 1961 في الجزائر على نحو إيجابي جداً. وبعد كثير من التردد، لعب التصويت الإيجابي لمصلحة رفع وضع بعثة فلسطين في الأمم المتحدة إلى دولة غير عضو، دوراً إيجابياً كذلك. ومما لا شك فيه أن تحسين صورة فرنسا في الجزائر وما بعدها في جنوب المتوسط، له تداعيات إيجابية على صعيد السياسة الداخلية. فإذا كانت زيارة أولاند إلى داكار في أكتوبر تهدف إلى تحسين صورة فرنسا في أفريقيا والبعث برسالة إيجابية إلى الفرنسيين المنحدرين من أصول أفريقية، فإن زيارته للجزائر تندرج في الإطار نفسه. والعكس بالعكس، ذلك أن تبني لغة الانفتاح تجاه الفرنسيين الذين يسمون بـ«فرنسيي التنوع»، له تأثير إيجابي على صورة فرنسا في الخارج أيضاً. ولكن أولاند يرغب في أن يُظهر أنه رئيس لكل الفرنسيين؛ ولذلك فإن التنديد بالاستعمار يجب ألا يصدم بعض الفئات الأخرى في المجتمع، كما أنه لابد من أخذ حرب الذكريات في عين الاعتبار. وفي هذا الإطار، يمكن القول كذلك إن «الحركيين» (الجزائريون الذين كانوا مجندين ضمن الجيش الفرنسي إبان الثورة الجزائرية واستعملتهم فرنسا من أجل قمع المقاومين الجزائريين والتجسس عليهم) لديهم آلام ومعاناة لم يتم الاعتراف بها كلياً حتى الآن، وإنه يتعين على أولاند أن يشدد على ملف استعادتهم لممتلكاتهم التي تركوها لحظة عودتهم إلى فرنسا أو على تعويضهم مالياً عما فقدوه خلال تلك الظروف. وإضافة إلى ذلك، ينبغي إثارة ملف موت رهبان تيبحيرين أيضاً، وذلك حتى يتسنى لقاضي التحقيق المكلف بهذا الملف، مارك تريفيديتش، الذهاب إلى عين المكان من أجل تعميق البحث في هذه القضية. كما ينبغي مناقشة مسألة التأشيرات، لاسيما تلك الخاصة بالطلبة. وربما تظهر سمة أخرى من سمات الرؤية الدولية لأولاند في إدراكه بأن ذلك الموقف من المرحلة الاستعمارية ينبغي أن يكون مفيداً للاقتصاد الفرنسي. وقد شدد وزير خارجيته لوران فابيوس على مفهوم الدبلوماسية الاقتصادية خلال مؤتمر السفراء الفرنسيين في شهر أغسطس الماضي، في وقت باتت تشكل فيه حالة الاقتصاد الفرنسي -نموه الضعيف وبطالته المرتفعة- مصدر قلق كبير بالنسبة لأولاند، وذلك لإدراكه ضرورة تغيير الأمور نحو الأحسن كشرط لإعادة انتخابه في عام 2017. وقد أشار فابيوس قبل الزيارة إلى أنه ستكون ثمة «قرارات واضحة واتفاقات سيتم توقيعها». وتعتبر الطاقة والبناء وصناعة السيارات، من بين القطاعات التي تعقد عليها الشركات الفرنسية آمالا كبيرة. والواقع أن ارتفاع أسعار النفط مكّن الجزائر من جمع أموال ضخمة، غير أن احتياجات السكان الشباب من حيث السكن والعمل والبنية التحتية... كبيرة جداً. وإذا كانت الذكريات المؤلمة للحرب الأهلية خلال سنوات التسعينيات قد جنبت الجزائر، في الوقت الراهن على الأقل، اضطرابات «الربيع العربي»، فإن النظام يدرك أنه لابد من تلبية احتياجات السكان إذا كان يرغب في عدم رؤية ولادة احتجاجات سياسية واجتماعية. وبالتالي، فإن فرنسا والجزائر لديهما مصالح مشتركة. غير أنه لا ينبغي لانشغالات السياسة الداخلية، سواء في الجزائر أو في فرنسا، أن تعرقل صيانة تلك المصالح.