بدأ القاصدون كربلاء سيراً على الأقدام (المشَّاية)، مع توفير الطعام والخيام على الطريق الطويل، لإحياء أربعينية الإمام الحسين(20 صفر)، المعروفة بين العراقيين بـ«مرد الرؤوس» (عودة رؤوس القتلى من الشام إلى كربلاء)، التي ينفي حدوثها آية الله مطهري (اغتيل 1979) في «الملحمة الحسينية». هذا وإن للماشين غايات شتى، والطعام والشراب بالمجان مع هروب من الدائرة مدفوع الراتب. سمعت أساتذة جامعات يتحدثون، عبر الفضائيات، عن ثورة الإمام، فقالوا: إنها أعظم ثورة في التاريخ، رسخت مبادئ الحرية والعدالة، ثورة كونية، لا تحيطها الدراسات العلمية، بل أحدهم قال: لا تخضع للدرس والبحث إنما الدرس والبحث يخضع لها! أجده إنشاءً مبعثراً يطغى عليه التعميم، قد يرتضيه من يطربه المديح لا الحسين المغروس في ذاكرتنا. كيف تخضع الدراسات للظاهرة! أليست الظاهرة هي موضوع الدراسات؟! قد يقال مثل هذا الكلام عن أية شخصية عقائدية دينية كانت أو غير دينية، يُصنع لها تمثال يعلق عليها العقل، ومعلوم لا يقتل الشخصيات والأفكار أكثر من إحالتها إلى مقدسات. كيف يراد لها أن تكون مؤثرة في الحياة إذا لم تكن واقعية داخل الزمن لا خارجه؟! عندما نشرت مقالا على صفحات «الاتحاد»: «الجامعات للعِلم لا للطم»، رُدَّ عليَّ بتهمة «عداوة الحسين»، وأنا الذي أحبه مظلوماً وصادقاً مع نفسه، لكني لا اسكت عما يجري باسمه. فهم يريدون لجم الأفواه بينما من المفروض أن ثورة الحسين تطلق الألسن وتنير العقول، مثلما هم يصفونها بالحرية ويسمونه أبا الأحرار؟! كيف يكون الحسين أباً للأحرار إذا مُنع الكلام في شأن التصرفات المشينة التي تمارس باسمه، وبهذه المشاهد المهينة، وما تصرفه دوائر الدولة لتلبية حاجات المواكب ناهيك عن تعطيلها. صارت المواكب مؤسسات وجاهات شخصية ومصادر رزق، فمن أراد جاهاً يؤسس موكباً، وهل يوافق الحسين على تعميق الطائفية باسمه في تحويل المؤسسة العسكرية إلى منابر للطم، وجعل واجهات الدوائر العسكرية والمدنية «جراديغ» (عرائش أو سقائف) للطباخة؟! بالتأكيد لست أعلى شأناً من محسن الأمين(ت 1952)، وهو المرجع المعروف، حتى لا يقال ضدي ما يقال، عندما أفتى منتصراً للحسين ضد الممارسات الهابطة باسمه، أخذ يفتي لإصلاح مراسم الحزن السنوي منذ (1902)، حتى تمكن من منع جريانها في الشام، فقام أحد المنتفعين ونظم في هجائه: «يا راكباً إما مررت بجلقِ (دمشق) / فابصق بوجه أمينها المتزندقا» (الخليلي، هكذا عرفتهم). على العموم، إن محسن الأمين واجه الحملة الشعواء، إلى درجة اُعتبر أموياً لأنه أراد نصرة الحسين ممن يعبثون باسمه وتاريخه وذكرى آلامه. فمن أنا قياساً بالأمين حتى لا أُعد عدواً للحسين؟! أليس هناك ازدواجية في تحويل الحسين، وهو مثلما يصفونه بأبي الأحرار، إلى قامع للجدل بما يحدث باسمه؟! لكن هذا هو عرف الفكر الديني السياسي العقائدي: من ضدنا فهو ضد الله! إذا كانت ثورة الحسين من أجل الحرية، فلا أظن أنه جعلها مشروطة، ولا يعطي الحق لمن يريد الجدل في تجربته، ويسأله، مثلاً، عما جعله يخرج بآل بيته (الأصفهاني، مقاتل الطالبيين)، ولم يسمع لنصيحة ابن عباس (ت 68 هـ) في هذا الشأن. وإذا قيل إن الله أمره، وسيقع ما كتب عليه، وهنا لا معنى لمحاسبة قتلته ولا النوح عليه ما دام الأمر قضاءً وقدراً، فالفكر الشيعي الإمامي الكلامي يؤمن بمقولة «لا جبر ولا تفويض» (المظفر، عقائد الإمامية). أحب الحسين لأنه يمنحني حريتي حتى في مناقشة تجربته، وهل ترى ابن عباس لم يقل عن الإمام إنه أخطأ، فالرواية تُخبر: أن الحسين قال بعد فوات الأوان: «لله در ابن عباس في ما أشار عليَّ» (مقاتل الطالبيين). وحتى إذا لم يقلها الحسين، فالعقل يقول لابد أنه قالها أو فكر فيها، وليكن الأصفهاني (ت 356 هـ) قد اخترعها، وهو الشيعي والمحب للإمام، فيعني أنه لا حرج في التخطئة، ذلك إذا علمنا أن أحد الصحابة عدل في خطة «بدر» (2 هـ)، وهو الحُبَاب بن المنذر الجمُوح (ت نحو 220هـ)، الذي كُرم لهذه المشورة بـلقب «ذو الرأي»، قال: «يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلٌ أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يارسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله...» (ابن عبد البر، الاستيعاب). كان هذا الحال مع جد الحسن والحسين، فكيف لا يكون مع الرواة والعابثين بذكراه، فمن يخطئهم، على قود الجموع بلا وعي، يتهم بعداوة الإمام؛ حتى جعلوا ما بين الحسين والحرية سداً، ومع اعترافهم بأنه أبو الأحرار حولوه إلى «أيقونة» لا ذلك المُجدد الذي يرغب في مجاراة العصور. لقد مكن التظاهر بالحزن، على الحسين، من إقامة دول، فالدولة العباسية (132-656 هـ) لم ترفع السواد راية إلا حزناً على الحسين وزيد بن علي (قتل 122 هـ)، حاربت بهما حتى تمكنت، ودول وجماعات تحركت براية الحسين، وليس آخرها «الصفوية» (1501-1723). إنها تجارة مربحة، لكن خطورتها أن تتحول إلى وسيلة استغفال اجتماعي. فمؤسسات السلطة العراقية تلهج بثورة الحسين لكنها لم تعمل شيئاً مما تدعيه، وكأنها تريد القول للقاصدين كربلاء لكم لطم الصدور ولنا السلطان، ومن يموت وهو في طريقه إلى المستشفى بسبب غلق الطرقات يعد شهيداً! لا أجد في التاريخ ناصراً نقياً للحسين، بعد قتله، مثل سليمان بن صُرد الخزاعي (ت 65 هـ). لم يكن طالباً لسلطة أو جاه، إنما أراد البراءة من تخلفه عن نصرته في ذلك الموقف الرهيب، فعرف بأمير التوابين. هنا توهمنا عداوة المختار الثقفي (قتل 67 هـ) للخزاعي أمراً، فكان «سليمان (ابن صُرد) أثقل خلق الله على المختار» (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، المسعودي، مروج الذهب). لأن طموح الأخير كان في السلطة لا النصرة. ها هو الحسين ينتظر نقياً كابن صُرد، آية من آيات الله مثلاً، يصرح بتحريم التلاعب بعقول الناس. فإذا آمنا بأنه أبو الأحرار، فقطعاً هو مع إيقاف التدهور المريع في الوعي الجماعي.