أصدر الرئيس اليمني يوم الخميس الماضي عدداً من القرارات الخاصة بالجيش اليمني تمثل دون شك بداية لنقله من الاصطفاف الفردي والأسري والقبلي على أحسن الفروض إلى صف الوطن. وقد تضمنت القرارات تغييرات جذرية في قيادات القوات المسلحة وتشكيلاتها، ونحي بموجب هذه القرارات ابن الرئيس السابق وإخوته من كافة مواقعهم القيادية بمن في ذلك اللواء علي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى المدرعة الذي كان قد انحاز للثورة، بل لقد تم إلغاء الفرقة نفسها أصلاً بالإضافة إلى الحرس الجمهوري الذي كان ابن الرئيس يقوده، وبالتالي تخلص الجيش شكلياً على الأقل من سمة الولاء لفرد أو أسرة أو قبيلة. كانت هذه الخطوة مطلوبة وبإلحاح من قوى الثورة في اليمن منذ تم التوصل إلى «تسوية» الحالة الثورية فيه، غير أن بقاء الجيش على حاله كان من شأنه أن يبقى مصدر تهديد لما تم إنجازه، وكان تأخر اتخاذ القرارات اللازمة في هذا الصدد يعكس، لا ريب، صعوبة هذه الخطوة وحساسيتها. لن يدرك أهمية هذه القرارات الأخيرة إلا من يعرف دور الجيش اليمني في تطور اليمن المعاصر، فقد كان هذا الجيش هو أداة تفجير الثورة في عام 1962 ضد نظام الإمامة المتخلف، وهي الثورة التي كانت بداية طريق اليمن نحو التحديث، ووفرت منذ عام 1963 قاعدة الدعم العسكري لحركة التحرر ضد القوات البريطانية المحتلة في جنوب اليمن حتى حققت هذه الحركة انتصارها النهائي في عام 1967، ثم لعب الجيش دوراً أساسياً في الدفاع عن الثورة بعد انسحاب القوات المصرية المساندة لها في ديسمبر عام1967 في أعقاب هزيمة يونيو من العام نفسه، ثم قاد الجيش عملية حقيقية لتحديث اليمن بعد أن أمسك بزمام الحكم بزعامة رئيس أركانه المقدم إبراهيم الحمدي الذي حاول من خلال جهود حقيقية للتنمية أن ينشئ في اليمن دولة حديثة يتراجع فيها نفوذ القبيلة وسيطرتها، وامتدت جهوده إلى محاولة إعادة بناء الوحدة اليمنية، وجرى ذلك كله في إطار مساندة شعبية لافتة، ثم وضع اغتياله في عام 1977 نهاية لكافة هذه المحاولات وكان في الوقت نفسه بداية لمرحلة من عدم الاستقرار المتصاعد الذي بدأت محاصرته مع تولي «الرائد» علي عبدالله صالح رئاسة الجمهورية في عام 1978 باختيار من مجلس النواب اليمني في وقت كان معظم أعضاء النخبة اليمنية يجفلون من تولي هذا المنصب خاصة بعد اغتيال المقدم أحمد الغشمي خليفة إبراهيم الحمدي واتهام دولة جنوب اليمن بتدبير هذا الاغتيال. ولئن كان تولي الرائد علي عبدالله صالح الذي رقي لرتبة العقيد بداية لمرحلة من الاستقرار المتزايد التي استعان فيها بالجيش لفرض هيبة الدولة بالإضافة إلى رؤيته السياسية التي حاول بموجبها بنجاح أن يجمع الأطياف السياسية اليمنية المتصارعة في إطار فكري وتنظيمي واحد، ويسلم لها بقدر من المشاركة الحقيقية في السلطة فإن طول فترة حكمه ورغبته في ترسيخ أركان هذا الحكم قد جعلت الجيش اليمني يتحول بالتدريج من جيش وطني إلى جيش قبلي أسري يدين بالولاء للفرد، فقد كان هذا الجيش يعتمد في تكوينه بصفة أساسية على القبائل الموالية للرئيس، كما أنه وضع على رأس كافة فروع هذا الجيش تقريباً -بل وقوات الأمن أيضاً- إخوته غير الأشقاء، وانتهى الأمر بأن وضع ابنه على رأس قوات الحرس الجمهوري الذي كان بشهادة الجميع أقوى تشكيلات الجيش اليمني وأحدثها تسليحاً وأفضلها تدريباً. وهكذا انتقل الجيش اليمني من صف قوى التحديث، التي قامت بثورة عام 1962 وحمتها، ثم حاولت بناء الدولة الحديثة وفرض هيبة الدولة، إلى جيش يدين بالولاء لفرد عبر الآليات التي سبقت الإشارة إليها. ثم جاءت مرحلة الوحدة اليمنية التي تم الاتفاق في عدن عام 1989 على إنجازها، وهو ما وضع موضع التطبيق بالفعل في عام 1990، وعلى رغم العيوب التي شابت عملية التوحيد، وأوجه القصور البنيوي في هذه العملية فإن أخطرها على الإطلاق كان الإخفاق في توحيد جيشي الشمال والجنوب، والاكتفاء بقيادة واحدة على صعيد وزير الدفاع وكذلك رئيس الأركان مع الاحتفاظ بكافة تشكيلات الجيش وقياداتها على ما كانت عليه قبل الوحدة وتغيير بعض مواقعها بحيث يتمركز عدد من الوحدات الشمالية في الجنوب وعدد آخر من الوحدات الجنوبية في الشمال. ولهذا كانت حرب الانفصال في عام 1994 من الناحية العملية حرباً بين جيش الشمال الذي اعتبر جيش الدولة المركزية بحسب ولائه لرئيسها وجيش الجنوب الذي لعب دور جيش المتمردين على أساس أنه يأتمر بأوامر زعيم الحركة الانفصالية علي سالم البيض رجل الجنوب الأول قبل الوحدة. وإذا كان «جيش الوحدة» أو «جيش الشمال» قد لعب الدور الأساس في الحفاظ على الوحدة آنذاك فإن الانتصار في هذه المعركة كان في الوقت نفسه بداية لعمليات تصفية واسعة طالت «جيش الجنوب» المهزوم على النحو الذي مثل أحد الأسباب القوية لظهور ما يعرف بـ«الحراك الجنوبي» الذي أخذ يتطور من حركة مطلبية إلى أن وصل إلى حد طرح قضية الانفصال من جديد. ثم لعب الجيش اليمني الدور السلبي الأكبر في تطوره المعاصر باصطفافه -فيما عدا الفرقة المدرعة الأولى كما سبقت الإشارة- إلى جانب الرئيس السابق تنفيذاً لسياسته وقمعاً للثوار وصل إلى حد القتل، وقصفاً للمناطق القبلية المعارضة بالطيران على النحو الذي كانت له تكلفته البشرية الباهظة، وكان الجيش اليمني في هذا أقرب إلى الحالتين الليبية والسورية منه إلى الحالتين المصرية والتونسية، ففي الحالتين الأوليين ظل الولاء راسخاً للقائد الفرد بينما انحاز الجيشان المصري والتونسي إلى صف الشعب حين أدركا أنه لا مناص من تلبية أهداف الثورة، ولأن المبادرة الخليجية أدت إلى «تسوية» للوضع في اليمن بطريقة «لا غالب ولا مغلوب»، ولأن التغيير في القوات المسلحة في هذه الظروف يتسم بحساسية فائقة يمكن أن يفضي عدم التحسب لها إلى انتكاسة الثورة تماماً فإن بقاء الأوضاع في الجيش اليمني على ما كانت عليه قبل الثورة على الأقل من منظور سيطرة الإخوة غير الأشقاء للرئيس السابق وابنه على كافة تشكيلات الجيش بدا أنه منطقي، وإن سبّب التأخر في إجراء التغييرات المطلوبة قلقاً متزايداً في صفوف قوى الثورة، على أساس أن الجيش بوضعه السابق يمكن أن ينقلب عليها في أي وقت. ولذلك ساد الارتياح قوى الثورة بمجرد الإعلان عن القرارات التي أكدت تلبية رئيس الجمهورية مطالب شباب «الثورة السلمية» وعزمه إنهاء نفوذ الرئيس السابق وأقاربه في الجيش والأمن، بل واطمأنت كافة الأطراف السياسية التي كانت رافضة المشاركة في الحوار الوطني طالما بقيت الأوضاع على ما هي عليه. غير أن الملفت أن إخوة الرئيس السابق وابنه بل والرئيس السابق نفسه قد أعلنوا قبول هذه القرارات وأثنوا عليها. ولا يستطيع أحد أن يؤكد بطبيعة الحال مدى صدق المواقف السابقة، أو كونها تكتيكاً مؤقتاً على أمل توافر ظروف الانقضاض على الثورة من جديد، ولكن المؤكد أن القرارات على أهميتها لا تمثل نهاية المطاف لعملية تغيير طال انتظارها في القوات المسلحة اليمنية التي تمت تنشئة أفرادها على الولاء لشخص قبل الولاء للوطن.