زرت مؤخراً جزر «الكاب فير» أو «الرأس الأخضر»، بعد أن حملت في ذهني أكثر من أربعة عقود من ذكريات لقائي مع زعيمها الراحل «أميلكار كابرال»، الزعيم المؤسس لحركة تحرير غينيا بيساو والرأس الأخضر بقيادة حزبه الشجاع «الحزب الأفريقي لاستقلال غينيـا والرأس الأخضر» "PAIGC"، وأقول الشجاع تحديداً لأنه الحزب الذي أعلن بقيادة «كابرال» الاستقلال من جانب واحد ضد البرتغاليين وسلطة «الناتو» التي ساندتهم طويلاً وبقوة في استمرار احتلالهم المتخلف في المستعمرات البرتغالية، وكان ذلك أوائل عام 1973، حين كان «كابرال» في طريقه للأراضي المحررة ليعلن الاستقلال من هناك، وإذا بالاستعماريين يحرمونه من القيام بذلك بشخصه، فيجري اغتياله على حدود بلاده في 20 يناير عام 1973. لكن الحدث يظل يهدد البرتغال والأطلسي حتى يسقط حكم الطاغية «سالازار» في ربيع عام 1975، ويعلن استقلال غينيا بيساو والرأس الأخضر في يوليو من نفس العام، ويدفن «كابرال» في غينيا بيساو منقولاً من « كوناكري». لن أنسى لقائي بـ«أميلكار كابرال» في «أكرا» أثناء اجتماع «لجنة تحرير المستعمرات» التابعة لمنظمة الوحدة الأفريقية قبل اغتياله بحوالى أسبوعين، وكانت تربطني به علاقة مودة حقيقية خلال زياراته للقاهرة، واجتماعاته مع ممثلي حركات التحرر الأفريقية بالزمالك، حيث كنت منسقاً لمكاتبها في الجمعية الأفريقية، فكانت زيارة «كابرال » مثل «نيتو» و«نيوما» و«نكومو» و«أوليفر تامبو» وغيرهم من زعامات التحرر تبعث فينا، وفي شباب التحرر الوطني كلهم، روحاً مبهرة ومبدعة لنوع من النقاش يعتبر نادراً الآن. يومها في «أكرا» حدثني عن تحديه للموقف الأفريقي نفسه تجاه مسألة الاستقلال. وطبيعي أن من يتأمل هذه «الفترة يدرك بدايات موجة» الاعتدال أو قل «التراجع» الأفريقي من حركات التحرر بما في ذلك الموقف الساداتي بالطبع. ولذلك لاحظت شدة لهجة «كابرال» أمام وزراء الخارجية الأفارقة في «لجنة تحرير المستعمرات» باعتبار تخاذلهم عن مساعدته وزملائه، مما يضطرهم، إلى مساومات وتوازنات جديدة مع «السوفييت» و«الصينيين» وقتئذ، وكان لكل من «كابرال» و«نيتو» بالذات دور كبير في هذا المجال، لم يستطع «كابرال» أن يحكي لي شخصياً بعض أطرافه! ولذلك حملت معي كل هذه المشاعر «الكابرالية » حين دعا «المجلس الأفريقي لتنمية البحوث الاجتماعية»، «كوديسريا» لعقد لجنته التنفيذية في «برايا» Praia عاصمة «كاب فير» وقد أعددت تساؤلاتي عن مصير «كاب فير» وجزرها العشر، ولماذا كل هذا الاختلاف بينها الآن مع «غينيا بيساو»، وكيف تتنارعها مصالح العلاقة مع البرتغال والأطلسي، والبرازيل الناطقة بالبرتغالية، بل والمواجهة لها على الشاطئ الآخر للأطلسي. هذه المشاعر الشخصية ومتطلباتها لاستعادة الذكريات على أرض «برايا» العاصمة كادت تقضي على قدرتي على النقاش الساخن لجدول أعمال «مجلس البحوث الأفريقي»، وخاصة وقد وجدت بعض التحية الخاصة في الجزر نتيجة مشاركتي السابقة بورقة عن «كابرال» في ندوتهم التذكارية منذ عشر سنوات، فترجموها للبرتغالية ونشروها في الكتاب. وقد دفعتني هذه المشاعر لطلب زيارة مدينته الأصلية «أسومادا» ومشاهدة محيط منزل والده، (لأن والديه من «غينيا بيساو»، وحين علمت بوجود زوجته «آنا ماريا كابرال» بالعاصمة، سارعت إليها، لأجدها نشطة قوية ترعى مع زملاء «كابرال»، والرئيس السابق للجزيرة «بدرو بيريز» مؤسسة باسمه، ثم زرت ميداناً ينافس ميدان التحرير في حجمه يتوسطه تمثال «كابرال »، ويجاور سوقاً شعبياً كبيراً يعطيه حيوية تعوض نسيان الكثيرين للرجل العظيم في ظل تطور نظم الحكم في الجزيرة على مدى أربعين عاماً! هكذا شعرنا ونحن ننزل في مطار باسم «نلسون مانديلا»! وحين حضرنا ملتقيات فكرية في جامعة «كاب فير»! واستغربت، إذن متى أقيم هذا التمثال، وماذا يبقى من الرجل بعد ما تشهده «غينيا بيساو» أيضاً من مظاهر الصراع العرقي والعسكري والسياسي. وطبيعي أن يدهش المتابع لهذه التطورات، وقد حرص «كابرال» على تسمية الحزب باسم «الحزب الأفريقي لاستقلال غينيا وجزر الرأس الأخضر» إشارة إلى وحدة البناء والمصير. مدركاً أن حلف الأطلسي يصمم منذ الحرب العالمية، وتصاعد صراع المعسكرات الدولية، على أن تبقى جزر الرأس الأخضر تحديداً، منطقة عبور أوروبي إلى بقية أفريقيا بعيداً عن الساحل. ولذا لاحظنا موقفها الخاص، منذ ما بعد الاستقلال في علاقتها مع النظام العنصري بجنوب أفريقيا، وعدم مشاركتها عملية المقاطعة الأفريقية لهذا النظام. كان «كابرال» حريصاً على المساهمة الفكرية حول الثقافة الوطنية والتشكيل الاجتماعي، ومفاهيم الصراع الطبقي نفسها، رابطاً بين مشاكل الجزر وتركيبها من «الكريول» المختلطين، والعناصر العرقية والقبلية المختلفة، مكونين «النخبة من البرجوازية الصغيرة» الناتجة عن السياسة الاجتماعية ومشاكل أخرى ناتجة عن القوى التقليدية ونخبها الموروثه عن علاقة تقليدية مع الاستعماريين، على أرض القارة في غينيا... وهذا الانقسام حاول «كابرال» معالجته بفكر سياسي تبناه الحزب، وشكل قوته التنفيذية للتوفيق بين من هم على أرض القارة (ذوي التشكيل الاجتماعي التقليدي) وبين أبناء الجزر ومعظمهم من «الكريول» ليخلق ذلك تركيباً مختلطاً. ولكن ذلك كان يحتاج لاستمرار قوة الحزب والقيادة، وهذا ما لم يتوافر، ولعب البرتغاليون وبرامج العولمة، ومصالح الأطلسي في بقاء الجزيرة معولمة وخاصة لخدمة المرور إلى جنوب أفريقيا العنصرية لفترة عقدين من المقاطعة، لتتراكم المصالح من أجل جزر مختلفة عن تصورات «كابرال»! وقد أثار «المجلس الأفريقي للبحوث الاجتماعية»، «كوديسريا» مسألة التجاهل الأفريقي لقضية «الجزر» الأفريقية عموماً، وبقاء بعضها تحت الإدارة الأجنبية، ولأن «ريونيون» أو «مايوت» في المحيط الهندي فرنسية، أو «جزر كناري» في المحيط الأطلسي إسبانية، ولا تجري مناقشة أوضاع أي منها في أي محيط أفريقي. ومع ذلك فإن الإشارات لا تفيد سعادة شعوب هذه الجزر بهذه الأوضاع المفروضة عليها، فإذا كان من بقي على أرض جزر «الكاب فير» نصف مليون نسمة، فإن المهاجرين منها إلى الولايات المتحدة والبرتغال والبرازيل يبلغون أيضاً حوالى نصف مليون، بما يجعلهم مجرد مصدر لـ«التحويلات» المالية، وليس لعلاقات ثقافية أو اجتماعية جديدة اللهم إلا موسيقى «تروبيكانا» اللاتينية المشتركة مع البرازيل. وقد خفت أن يكون أحفاد «كابرال» قد هاجروا بدورهم ولكن السيدة «آنا ماري كابرال» أكدت أن ابنته متزوجة في بيساو وتعيش هناك مع حفيدتيه، لأنه كان من أم غينية وأب من الرأس الأخضر، وأنها شخصياً تنتقل بين «البلدين» وعملت سفيرة للجزر في بعض البلاد الأوروبية وأميركا اللاتينية قبل أن تستقر في «برايا». وقد تركتها لتعد مع شعب «كابرال» احتفالا بذكرى اغتياله الأربعين... وتمنيت أن دولا عرفته جيداً مثل مصر والجزائر وتحرص الزوجة على ذكرها، تساهم في المناسبة بجدية مناسبة!