ناقشنا في مقالنا السابق «رؤية أميركا للشرق الأوسط.. إقليم الأزمات والآمال» بانتهاج إدارة أوباما لاستراتيجية جديدة مطلع هذا العام، تقضي بالاتجاه شرقاً لاحتواء العملاق الصيني ولتأخير صعوده وهيمنته على النظام العالمي في قرن بدأ أميركياً، ويبدو أنه في طريقه لأن ينتهي آسيوياً. ولا يبدو أن أميركا هي اللاعب الدولي الوحيد الذي يتجه شرقاً. فالعالم كله، بما فيه دول في الخليج العربي أيضاً، يتجه شرقاً وخاصة أننا نصدر النسبة الأكبر من النفط ونستورد النسبة الأكبر من وارداتنا من الشرق. وقد شرحتُ أهمية الصعود الآسيوي واتجاه العالم إلى الشرق في مقالة أيضاً في الاتحاد في 15 أكتوبر الماضي كان عنوانها: «التوجه شرقاً... إنها الحقبة الآسيوية» وقد أنهيت مقالي السابق في هذه المساحة معلقاً: «بسبب أزمات الشرق الأوسط الذي يبقى بكل تعرجاته وأزماته المتشعبة والمتعددة والمتداخلة حقول ألغام كبيرة ومساحات لأحلام وآمال. ولكن تلك الأزمات والأحلام قد لا تسمح لإدارة أوباما أو غيرها بترف الالتفات شرقاً باتجاه العملاق الصيني»! وحتى بعد انسحاب أميركا من العراق وبدء سحب قواتها من أفغانستان الذي يثير أسئلة حول الحكمة من التسرع في هذا الانسحاب وتداعياته على الأوضاع الأمنية في منطقة جنوب آسيا وخاصة أفغانستان- باكستان، تشكل أزمات الشرق الأوسط تحدياً حقيقياً لاستراتيجية واشنطن القاضية بالتحول شرقاً دون قيود. ومن تلك التحديات الشأن الداخلي، وخاصة الوضع المالي الصعب والمواجهة المفتوحة بين أوباما شخصياً وإدارته والحزب الجمهوري وعلى رأسه رئيس مجلس النواب الجمهوري، حول أزمة الهاوية المالية والضرائب وحزمة التقشف. وهناك تركيبة إدارته التي يعمل أوباما بجد على تشكيلها، وخاصة فريق الشؤون الأمنية والخارجية والدفاع. وبعد ترشيح السيناتور جون كيري لمنصب وزير الخارجية وما بات شبه مؤكد عن ترشيح السيناتور السابق الجمهوري المعتدل تشاك هاغل للدفاع، وكلاهما واقعيان، فإن هذا سيعطي ثقلا وتوازناً وتناغماً بين وزارة الخارجية ووزارة الدفاع، وليس تنافساً كما كان في السابق. وهذا قد يغضب بعض الدول مثل إسرائيل، ويجعل دولاً أخرى مثل الصين، قلقة من مساعي الولايات المتحدة لاحتوائها وهي ترى من التوجه الأميركي شرقاً. وهي المستهدف الأول من تلك الاستراتيجية الجديدة. ويبدو أن الدور الصيني المتنامي، والصعود الروسي، والمماحكات الكورية الشمالية، كلها قد أقنعت الولايات المتحدة بالتوجه شرقاً. فالصعود الروسي مزعج ومشتت للتركيز الأميركي، وخاصة في الشأن السوري وغيره من الملفات وآخرها تشريع يمنع تبني الأطفال الروس من قبل أميركيين! وهناك طبعاً كوريا الشمالية كدولة مشاكسة تدفع أميركا للعمل على تعزيز استراتيجيتها شرقاً. وكذلك تحرك الصين المستفز أحياناً لجيرانها، وخاصة اليابان، حول الجزر المتنازع عليها، وصعود الصين أساساً كقوة عالمية. والتقرير الأخير لمجلس الاستخبارات الأميركية عن «تحولات العالم 2030» يؤكد أنه قبل عام 2030 بسنوات ستحتل الصين المرتبة الأولى على الصعيد الدولي كأكبر اقتصاد في العالم على حساب الولايات المتحدة الأميركية. ولكن أزمات وتحديات الشرق الأوسط وملفاته المعقدة والمتداخلة والمتشابكة ستفرض نفسها هي أيضاً على الأجندة الأميركية، وبالتأكيد سيكون لها الدور الأبرز في عرقلة وحرف الاستراتيجية الأميركية كما خططت لها إدارة أوباما باتجاه آسيا والصين. وكانت إدارة أوباما حين طرحت قبل حوالي عام مسألة التحول شرقاً باتجاه آسيا والصين قد أثارت تساؤلات مشروعة واستفسارات حول مدى صواب هذا الخيار والحكمة من تلك الاستراتيجية. وبالتأكيد ترك الإعلان عن تلك الاستراتيجية تساؤلات لدى صناع القرار في المنطقة وخاصة في خضم تداعيات الثورات العربية، وما نراه من أكل الثورات لأبنائها، بل الثورات المضادة والفوضى والمواجهات في مصر وتونس وليبيا وكذلك ما يجري في سوريا. وهناك القوى الإسلامية التي هي بحاجة إلى رصد متأنٍّ. والجمود الكلي في عملية السلام، والمخاوف من مواجهة وتصعيد وعمل عسكري ضد إيران، واليوم تزيد تشقق خطوط الصدع في العراق من مأزق الحالة العراقية بنذر صراع طائفي وعرقي بين العرب والأكراد، ودخول الرئيس العراقي في غيبوبة ونقله للعلاج في ألمانيا، ومخاوف من القنابل الموقوتة حول استهداف المكون السني من حكومة المالكي بدءاً مع نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي ومذكرات إلقاء القبض عليه والحكم عليه بالإعدام، إلى استهداف الفريق الأمني لرافع العيساوي وزير المالية العراقي. وهكذا يعود العراق للواجهة من جديد. وهناك طبعاً دموية الثورة السورية وتداعياتها الخطيرة في الداخل السوري وإقليمياً من لبنان إلى إسرائيل ومن العراق إلى تركيا وحلف «الناتو». وكذلك حرب إسرائيل على غزة واستمرارها في بناء المستوطنات في تحدٍّ واضح للموقف الأميركي والدولي. وكل هذه قضايا ضاغطة ولن تتيح لأميركا حرية التوجه شرقاً كما تأمل واشنطن. ولذلك فإن من الأسئلة المطروحة في المنطقة بإلحاح: لماذا تتوجه أميركا شرقاً من الأساس؟ وماذا تعني تلك الاستراتيجية؟ وكيف ستنعكس على قضايا المنطقة ومشاكلها؟ وكان ملفتاً في مؤتمر عقد الشهر الماضي في أبوظبي «منتدى بني ياس» مطالبات بدور أكبر لأميركا. والتساؤل ليس عن التراجع الأميركي في المنطقة بعد الانسحاب من العراق، بل عن تراجع الاهتمام الأميركي في الشرق الأوسط، بصفة محسوسة! وهذه المرة لوحظ أن زيارة أوباما الأولى بعد انتخابه لم تكن لأوروبا أو الشرق الأوسط بل لشرق آسيا، في تأكيد آخر لاستراتيجية أميركا الجديدة بالتوجه شرقاً. وآخر الفزاعات التي رفعها أوباما احتمال الاستغناء عن نفط الشرق الأوسط خلال العقد الحالي، وقد تصبح الولايات المتحدة دولة مصدرة للنفط. ولهذه الأسباب كان ملفتاً تأكيد وطمـأنة وزير الدفاع الأميركي في زيارته للكويت قبل أسبوعين وقوله: «دعوني أؤكد لكم أن لدى الولايات المتحدة القوة الكافية للوجود القوي في الشرق الأوسط وكذلك في المحيط الهادئ... ولدينا الإمكانيات من السفن الحربية والقوات المطلوبة لمواجهة أي طارئ». وكان نائب وزير الخارجية الأميركي أكد في منتدى «حوار المنامة» السنوي مطلع الشهر الجاري محورية الشرق الأوسط وعدم تراجعه على سلم اهتمامات وأولويات واشنطن على رغم الإعلان عن استراتيجيتها الجديدة حول التوجه شرقاً. وفي جلسة علنية من جلسات المؤتمر علق قائلاً «على رغم ما يقال عن توجه الولايات المتحدة في استراتيجيتها الجديدة باتجاهات أخرى (آسيا والصين والمحيط الهادئ)، تبقى الحقيقة، أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تتحمل إهمال أهمية ومحورية الشرق الأوسط... فهو منطقة مليئة بالأزمات والآمال معاً». وكان السيناتور جون ماكين في الجلسة التي جمعته مع نائب وزير الخارجية بيرنز في المؤتمر نفسه انتقد «فكرة تغيير الاستراتيجية الأميركية بعيداً عن الشرق الأوسط لأنها هي قمة الغباء». وفي المجمل، قضايا الشرق الأوسط وتعقيداته، وأزمات أميركا الداخلية من مالية وسياسية، والتراجع الأميركي الاستراتيجي في عالم متعدد الأقطاب، كلها ستحرم واشنطن من حرية التوجه شرقاً كما ترغب وتتمنى لمواجهة تنامي الصعود والتمدد الصيني.