«إن من يقول قولك هذا أو قريباً منه فهو إما زنديق وإما مستهزئ بكتاب الله وسنة رسوله، ولكل من هذين حكمه المعروف في الإسلام!». بهذه الكلمات الحاسمة الصارمة القاتلة أنهى سائل سلفي غاضب سؤالاً سريعاً، أو بالأحرى ألقى تهديداً واضحاً، في وجه إبراهيم عيسى، الكاتب والصحفي والروائي المصري المعروف، وذلك في سياق ندوة عن روايته «مولانا» نظمتها دار بلومبزبري- قطر في معرض الدوحة للكتاب. الترجمة العملية للمداخلة المتعصبة هي إحلال دم الكاتب. اللغة الرصاصية التي لا ترحم هي العتاد الذي ينتظره متعصب أهوج لا يدخل مَعارض الكتب ولا يحاور الكتاب، بل يتلقف رصاص اللغة فيحشو به مسدسه المتأهب بوهم «الانتصار لدين الله» ضد كاتب هنا أو فنان هناك. ورصاص اللغة الذي أطلق ضد فرج فودة وفُهم من قبل بعض المتعصبين بأنه تحليل لدمه هو الذي تحول إلى رصاص فعلي أردى الكاتب قتيلا. ورصاص اللغة الدموي الذي أطلق ضد نجيب محفوظ وعلى نصر حامد أبو زيد هو الذي شحذ السكين التي استخدمها مهووس لمحاولة اغتيال الأول، وشحذ القضايا التي رفعها مهووسون آخرون ضد الثاني ليفصلوا بينه وزوجته، طاردينه خارج مصر إلى أن يموت بعيداً عنها. وإبراهيم عيسى، مثل من سبقوه، ينطلق فيما يقوله سواء في مقالة أو برنامج تلفزيوني أو رواية، كما في حالة نص «مولانا»، من مرجعية الدين، وهو لا يخرج عنها. يثور على بعض وعاظ التلفزيونات وتجار الدين والمتعصبين من المفسرين ويدعو إلى إسلام رحب يتسع للناس ولا يطردهم، يرأف بهم لأنهم عيال الله، ولا يعتبرهم فاسقين ما لم يثبتوا العكس. يدير في روايته الأخيرة حوارات بالغة العمق وعلى أرضية دينية وفي إطار درامي شيق دفع بمحكمي الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية) لهذا العام لاختيار روايته ضمن القائمة الطويلة (التي تتضمن 16 رواية من أصل ما يقارب 130 رواية). يعود للنص القرآني والحديث ويستشهد بروايات موثوقة من عهد الصحابة الأول ليدحض مقولات وقناعات ويبرئ الدين منها، وليقول لقارئه إن ما تراكم من تفسيرات وعادات واستثمارات سياسية وتوظيفية للدين ليست بالضرورة من الدين. ويقدم لنا في الرواية داعية تلفزيونياً، هو شخصية الرواية المركزية، يتمزق بين ضميره الديني من جهة ومصلحته المادية والمباشرة من جهة أخرى، التي تفرضها شروط «البزنس» من التزام بشروط المنتج لضمان الأرباح وسيل الدعايات، وما يريده مالك القناة الدينية، والحدود التي ترسمها السلطة السياسية وسوى ذلك. رصاص اللغة باتهامات الزندقة والتكفير والمروق من الدين والتخوين يصوب هنا على كاتب يتمسك بمرجعية إسلامية، وجهده «وجهاده» يتمحوران حول محاولة إقناع مخالفيه من المتعصبين بأن يقبلوا رأيه في فضاء الآراء الإسلامية وأن يتواضعوا بدورهم ويعتبروا رأيهم «رأياً» من الآراء وليس «الرأي» الأول والنهائي في الدين وبـ«ال» التعريف القاصمة. إذا كان هذا هو حال من ينطلق من المرجعية الإسلامية فأين يقع أولئك الذين لا ينطلقون من المرجعية الإسلامية في الشأن العام ويقولون بضرورة فصل السياسة عن الدين، وعدم تديين السياسة وتسيس الدين؟ رصاص اللغة الذي يزداد لعلعة هذه الأيام في كثير من الخطاب الديني المتشدد يقودنا إلى دمار داخلي طالما ظل يصر على احتلال موقع توزيع صكوك الإيمان والكفر على الناس. ورصاص اللغة الذي قد يصدر عن دعاة وشيوخ معروفين لن يتوقف عند اللغة، بل ستتحول حروفه إلى نار حقيقية يتلقفها أفراد لا يجيدون استخدام اللغة ولا حتى استخدام الدين، بل يجيدون استخدام المسدس والقنبلة. ومحاربة رصاص اللغة ومحاصرته من مسؤولية رجال الدين العقلاء بالدرجة الأولى. وهي مسؤولية الجميع أيضاً عبر تسليط الضوء على خطورة اللغة الإقصائية والمدمرة والممهدة للدم. ومسؤولية علماء الدين، كما غيرهم، تقع في المهمة الطارئة والعاجلة على مستوى العقل المسلم كي تحرره من سجن السذاجة الباحثة عن الحكم السريع في توصيف وتصنيف البشر وحشرهم في مربعات الأسود والأبيض. ورصاص اللغة يحسم كل ما هو رمادي ومعقد في حياة البشر ويجب أن يظل رمادياً لأنه لا أحد يمكنه الزعم بأنه يمتلك الحقيقة أو التفسير النهائي أو الحكم المطلق. ورمادية الحياة والمبادئ والعقائد والتجارب التاريخية هي الزيت الذي يبقي على عجلة المجتمعات صالحة للعمل ومتواصلة. وكل الآراء والتنظيرات والتفسيرات ميدانها المنطقة الرمادية، وهناك تدافع عن نفسها، وتحاور غيرها من الآراء، وتحاول أن تثبت أنها الأفضل، ولكنها تنطلق من نقطة أساسية وجوهرية هي قناعتها بأنها رأي من الآراء، وليست الرأي الحاسم. لأنها لو اقتنعت بأنها رأي الدين، وليست رأياً في الدين، فإن ذلك تترتب عليه أحكام وتبعات وسياسة وتنفيذ. وهو تنفيذ اختصر من القلب واللسان، إلى اليد والرصاص مباشرة في أيامنا هذه. ورصاص اللغة ينطبق أيضاً على غير الإسلاميين. وأولئك الذين اعتدوا وحرقوا مقرات حزب العدالة والتنمية في مصر، لا يختلفون عن الإسلاميين الذين اعتدوا وحرقوا مقرات حزب الوفد وغيره من الأحزاب الوطنية والليبرالية. ولكن الخطر يكون متفاقماً أكثر في حالة التوظيف الإسلاموي لرصاص اللغة، لأنه في هذه الحالة يقف على أرضية دينية، ويقدم المسوغ الديني، وعندما تصل حلقات بناء الممارسة المتطرفة إلى الحلقة الأخيرة حيث التنفيذ وإطلاق الرصاص فإن مُطلق الرصاص يعتبر فعلته «جهاداً» يدخله الجنة، ولذلك تكون حميته في القيام بالممارسة فائقة ومتجاوزة لكل حمية وحماس أي من منافسيه الذين قد يتورعون (للمفارقة) عن القيام بنفس الممارسة بسبب صحوة ضمير وطني، أو تردد في اللحظات النهائية، أو سوى ذلك. والمفارقة الكبرى والمحزنة تصير بالتالي أن رصاص اللغة عندما يتحول إلى رصاص مسدس في حالة الخطاب الديني يكون أكثر جراءة في التنفيذ، وتتلبسه حالة من «ارتياح» الضمير الديني باعتباره يقوم بواجب يجازى عليه. لنقف جميعاً ضد رصاص اللغة، وإلا سقطنا جميعاً ضحايا لرصاص المسدس.