في اللحظات الاستثنائية في التاريخ أي لحظات الثورات أو الانتفاضات أو الاحتجاجات الكبرى تحدث تغيرات كبرى وخضّات ضخمة تؤثر على التصوّرات والمفاهيم وبالتالي على الفعل والرؤية. ومن ذلك أنه في زمن الربيع الأصولي الذي تعيشه بعض البلدان العربية تكوّن لدى كثير من الحشود الثائرة والجموع الهائجة عداءٌ مستحكمٌ للدولة نفسها ولكيانها بأكمله، فهذه الجماهير لقلة علمها ووعيها لا تستطيع أن ترى الفرق بين النظام والدولة، ومن هنا فإن هذا العداء للدولة يصحبه عدم ثقة متأصل بين هذه الجماهير وبين مؤسسات الدولة وتحديداً تلك المعنية بفرض الاستقرار كالشرطة والأمن ونحوهما. يمكن اعتبار هذه الظاهرة ظاهرة طبيعية في مثل هذه الظروف التاريخية غير أنّ ثمة ما يزيد الطين بلة في الحالة العربية ذلك أنّ النموذجين التونسي والمصري شهدا صعوداً متوقعاً للإسلام السياسي وجماعاته وقياداته لسدة الحكم وبما أن هذه الجماعات جماعاتٌ قد مردت على التقلب والتناقض في خطابها ومواقفها فإنها وبعد استحواذها على السلطة قد رمت بجميع حلفائها خلف ظهرها، وقلبت لهم ظهر المجنّ بعدما تكون قد أخذت ما تريد منهم، وهذا الأمر تحديداً هو ما زاد الجماهير الساخطة والمرتبكة شكاً في مؤسسات الدولة بعدما أصبحت تحت قيادة جماعات الإسلام السياسي التي ثبت بالدليل أنها جماعات لا يمكن الوثوق بها. لا ترقب دول المنطقة ما يجري في مصر إلا بقدر ما يهتمّ به العالم، فمصر واحدةٌ من أهمّ دول المنطقة وأكبرها مكانة وأثقلها وزناً، ولما يجري فيها تأثيراتٌ مهمةٌ على كافة الصعد، ومن هنا فإنّه لا ينبغي رصد اللغة المترددة والتحليلات المواربة والتعليقات الجفولة تجاه ما يجري فيها اليوم من قبل بعض مناصري الإسلام السياسي بل ينبغي إدانتها بحجم الخطر الذي تنشره والتشتيت الذي تعمد إليه. لم تستوعب جماعة «الإخوان المسلمين» بمصر أنّها فازت بالانتخابات الرئاسية وأصبح أحد كوادرها المخلصين رئيساً لدولة بحجم مصر ولقلة خبرتها السياسية والإدارية فإنها فشلت حتى الآن في إدارة البلاد وفشلت فشلاً أوضح في رسم خطوط فارقة بين الجماعة والدولة، فلا أحد بمصر اليوم يعرف حقاً ما هو من شؤون الدولة وما هو من شؤون الجماعة، المرشد يصرّح باسم الدولة، وبعض مسؤولي الدولة يصرح باسم الجماعة وهكذا في معادلة متشابكة لا تزيد المشهد إلا ضبابية واختلاطاً. في خضم اللهاث وراء كراسي السلطة والاستحواذ على مؤسسات الدولة كانت جماعة «الإخوان المسلمين» تحسن صنع الحلفاء ثم تتخلّى عنهم في طرفة عين، فمثلاً هي جماعةٌ لم تشترك في الثورة في بدايتها ولكنّها لحقت بجموع الشباب الثائر لاحقاً ولكنها أخذت كل مكتسبات الثورة ولم تترك لهم شيئاً بل بدأت في التهجم عليهم، ثم تحالفت في انتخابات الرئاسة مع القوى المدنية ضد المرشح السابق أحمد شفيق وبعدما انتصرت بشق الأنفس، وبأصوات مرجحة للقوى الثورية في جولة الإعادة الثانية، وفاز مرشحها للرئاسة، تخلت عن هذه القوى جملة واحدةً بل وأصبحت تناصبها العداء كما جرى في الإعلان الدستوري الرئاسي وفي الاستفتاء على الدستور. قد يستغرب بعض المتابعين من حجم التناقضات التي تتقافز بينها جماعة «الإخوان» في مواقفها وتحالفاتها السياسية، ولكنّ من يقرأ تاريخ الجماعة يعلم علم اليقين أنّ هذا نهجٌ إخوانيٌ ثابتٌ منذ إنشاء الجماعة نهاية العشرينيات من القرن الماضي وحتى اليوم، فعلته الجماعة مع كل من تحالف معها أو أحسن الظن بها من دول وجماعات وأحزاب وتيارات وهي تكاد تكون علامة فارقة لجماعة «الإخوان» عن غيرهم. اليوم تقف جماعة «الإخوان المسلمين» على رأس حلف ديني سياسي لا يعتمد على الجماعة وكوادرها ومحبيها فحسب بل على استقطاب كافة القوى الدينية الفاعلة سياسياً والتي تقف على رأسها القوى السلفية التي يمثلها «حزب النور» و«حازمون» وكذلك «الجماعة الإسلامية» وهذه القوى ستكون كغيرها وستذوق ما ذاقوه من هذه الجماعة فهي ستستغلهم ما دامت تجد فيهم نصيراً نافعاً ثم إنها ستتخلّى عنهم بكل سهولة في قابل الأيام. السلفية ليست شيئاً واحداً كما يحسب البعض، لا من حيث التوجهات والأفكار ولا من حيث المعاني والمضامين التي تتبناها وتدعو إليها وتدافع عنها، فثمة السلفية التقليدية وهي تلك السلفية التي كانت تمثلها مدارس عقدية وفكرية تتبع كبار العلماء والفقهاء بالسعودية كابن باز وابن عثيمين أو المحدِّث ناصر الدين الألباني، وهناك السلفية التي تعرف بالسلفية الجامية نسبة للشيخ محمد أمان الجامي وهي سلفية تعتبر امتداداً للتقليدية وإن بمواصفات خاصة، وهناك السلفية الجهادية التي كان من منتجاتها تنظيم «القاعدة»، وثمة سلفية سياسية. القوى السلفية المتحالفة مع جماعة «الإخوان المسلمين» بمصر والتي ذكرنا نماذجها أعلاه إنما تعبّر عمّا يمكن تسميته بالسلفية السياسية أو السلفية الإخوانية، سمّها ما شئت، فالمعنى واحدٌ، بمعنى أنها جميعاً تتفق مع «الإخوان المسلمين» في تقديم السياسة على العقيدة وفي الأولويات عموماً وكذلك في بناء تنظيمات تبرّر دينياً كل أخطاء السياسة. ممثلو السلفية «الإخوانية» هؤلاء لا يمتلكون أي تجربة سياسية ووعيهم السياسي فقيرٌ وضيّق ومثير للأسى، ومن يراقب مشاركاتهم السياسية وتعليقات رموزهم في كل الشؤون السياسية بمصر يعلم إلى أي مدى هم جهلة بسطاء في السياسة، ومن تابع جلسات اللجنة التأسيسية للدستور وسمع تعليقاتهم يعلم ذلك جيداً، ومن يتابع الأحداث بمصر ويرى كيف يرمي «حازمون» بأنفسهم في أتون كلّ فتنة يزداد يقيناً بمدى بساطة وغباء هذه التيارات. ترى جماعة «الإخوان» أنّ هؤلاء مثلهم مثل غيرهم ستستغلهم فترةً ثم ترمي بهم خلفها ولكنّها مخطئة كثيراً حين تعتمد على هكذا تصوّر ذلك أنّ هذه الجماعات تنطلق وتدافع عن القاعدة الأساسية التي تعتمد عليها جماعة «الإخوان» وتلك هي قاعدة الدين أو الشريعة أو سمّها ما شئت وهي حين تختلف معهم فهم قادرون بسهولة على صناعة شوشرة كبرى تجاه مشروعية الجماعة الدينية ما سيؤثر كثيراً على حضورها في الشارع. لم تنقض أشهرٌ على استيلاء جماعة «الإخوان المسلمين» على السلطة بمصر حتى قسّمت المجتمع المصري وبدأت شعارات ومشاعر الطائفية ترتفع وتعلو وبدأ الخوف على الوحدة الوطنية يتصاعد، وأخذ الاقتصاد ينهار والقضاء تحت الضغط والتشكيك والجيش تحت الشتم والاعتداء، فكيف يحاول البعض إقناعنا بمستقبل زاهٍ!