صادف وجودي في تونس الأسبوع الماضي الذكرى الثانية لاندلاع «الثورة التونسية» التي كانت نقطة انطلاق حركية ما اصطلح على تسميته بـ«الربيع العربي». كنت في تونس في الفترة ذاتها من السنة الماضية، وكان الاهتمام وقتها متمحوراً حول نتائج انتخابات المجلس التأسيسي التي فازت فيها حركة النهضة وحلفاؤها الذين شكلوا معها الحكومة الائتلافية الحالية. سنة طويلة مرت على تشكيل حكومة الجبالي، حدثت فيها تحولات كبرى في الساحة التونسية التي تجد نفسها اليوم مفتوحة على احتمالات عديدة. من أبرز هذه التحولات تآكل الصيغة الائتلافية التي قامت عليها المعادلة الحكومية، سواء تعلق الأمر بالمكونات الداخلية للأحزاب التي تتشكل منها أو بعلاقة هذه المجموعات السياسية في ما بينها. حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» الذي يتزعمه الرئيس منصف المرزوقي كان الضحية الأولى لهذا المشهد بخروج 12 نائباً من نوابه عن الخط وباستقالة أمينه العام وعدد من قياداته البارزة. ولم يسلم «التكتل الديمقراطي» الذي أسسه مصطفى بن جعفر، رئيس المجلس التأسيسي، من الانقسام والتفكك، حيث انسحب 11 نائباً من نوابه العشرين احتجاجاً على خط ومسلك زعامته. ومع أن حركة النهضة لا تزال تبدو متماسكة الصف، إلا أنها لم تخلُ في الآونة الأخيرة من صراعات داخلية حادة بدأت تخرج للعلن مهددة وحدة الحزب الإسلامي الحاكم. فلم يعد من الخافي على أحد أن الحركة تشهد انقساماً داخلياً بين عدة اتجاهات متباينة في الرؤى والاتجاهات حول القضايا الفكرية والسياسية المطروحة راهناً في الساحة التونسية. ومن خيوط التصدع البادية الصراع بين جناحي «المساجين» (الذين كانوا قابعين في سجون نظام بن علي) و«المهجرين» (اللاجئين للخارج في بريطانيا وفرنسا على الأخص). ويتشكل الطرف الأول الذي يعتبر أكثر اعتدالا وانفتاحاً من بعض القيادات الطلابية والنقابية السابقة مثل عبدالكريم الهاروني و«العجمي الوريمي» ووزير الداخلية الحالي «علي العريض»، في حين يتشكل الطرف الثاني الأكثر تشدداً من بعض الشخصيات الحركية المتشبثة بخط الإسلام السياسي التقليدي ويمثلها «لطفي زيتون» مستشار رئيس الحكومة الحالي. ومن خيوط التصدع الصراع الجلي بين اتجاه سلفي أقرب للتشكيلات السلفية النشطة بعد الثورة يمثله القياديان في الحركة «الحبيب اللوز» و«الصادق شورو» واتجاه يدعو للتقارب مع التيار الليبرالي ضمن الثوابت الوطنية الكبرى يمثله رئيس الحكومة «حمادي الجبالي» ووزير داخليته «العريض»، في حين يحاول زعيم الحركة «الغنوشي» الإمساك بالعصا من الوسط للحفاظ على وحدة الحزب المهددة. بيد أن تسريب بعض التصريحات التي أطلقها الغنوشي حول «التطبيق المتدرج للمشروع الإسلامي» لطمأنة التيارات السلفية والأصولية الراديكالية خلق أزمة كبرى داخل الاتجاه الإسلامي الذي يبدو من العصي عليه الحفاظ على صيغته الائتلافية الحالية. والعلاقة بين مكونات الترويكا الحاكمة ليست أكثر صلابة، مما عكسته تصريحات رئيس الجمهورية «المرزوقي» التي هدد فيها بالاستقالة من منصبه الشرفي شاكياً من فشل الحكومة في الوفاء بتعهداتها، في وقت يتوقع إجراء تعديل وزاري قد يطال رئيس الحكومة نفسه الذي يتهمه البعض بالضعف وافتقاد روح المبادرة. ومن مؤشرات التحول الجديد انبثاق قطب سياسي يحمل تسمية «نداء تونس» بزعامة الوجه السياسي المخضرم «باجي قائد السبسي» الذي ترأس الحكومة الانتقالية التي شكلت بعد سقوط نظام «بن علي». ويهدف الحزب إلى أن يكون تجمعاً واسعاً لكل التيارات الليبرالية والتحديثية من ورثة البورقيبية ونشطاء المجتمع المدني ورموز الحركة النسوية تحت لواء «الدولة المدنية الديمقراطية» في مقابل مشروع «الإسلام السياسي» لحركة النهضة. وتفيد بعض استطلاعات الرأي الأخيرة المنشورة أن الحزب الجديد قد يحقق مكاسب انتخابية باهرة في الاستحقاقات القادمة بحيث يحتل المركز الثاني بعد حركة النهضة بنسبة متقاربة معها. ومع أن حركة النهضة عرضت على البرلمان مشروع قانون لإقصاء القيادات السياسية السابقة باسم مطلب «تحصين الثورة» يعتقد أنه يستهدف الشعبية المتنامية للحزب الليبرالي الجديد، إلا أن بعض التحليلات تذهب إلى أن هذه الخطوة ستكون في مصلحة «نداء تونس» الذي سيستفيد أوانها من دعم الجيل الأخير من الدستوريين الممنوعين من حقوق المشاركة السياسية. والتحول الثالث هو الصراع المحتدم بين الحكومة والاتحاد التونسي للشغل الذي كاد يفضي للانفجار بدخول المركزية النقابية القوية في إضراب شامل تقرر يوم 13 ديسمبر قبل تعليقه في اللحظات الأخيرة. ومع أن الأسباب الحقيقية لتعليق الإضراب لا تزال غامضة إلى حد بعيد، إلا أنه من البديهي أن دخول الاتحاد معترك الصراع السياسي في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة سيكون له أثره القوي على مستقبل المشهد السياسي التونسي. أحد كبار المسؤولين التونسيين من الشخصيات المستقلة الداعمة للنظام قال لي بوضوح إن الثورة لم تخرج دائرة الخطر، ولم تستطع لحد اللحظة وضع قواعد صلبة ومستقرة لبناء ديمقراطي ناجع يؤمن لها الاستمرارية. وقد عزا محدثي التحديات القائمة إلى سببين رئيسيين هما من جهة ضعف الأداء الفكري والسياسي للتشكيلات الحاكمة التي تضم شخصيات إسلامية ويسارية في غالبها ضحلة التكوين والتجربة، ومن جهة أخرى تجذر النظام السابق في البنيات العميقة للدولة كالإدارة والأمن والاقتصاد والإعلام. قد يبدو الوضع التونسي أقل تعقيداً من الحالة المصرية المتردية، فالجيش خارج اللعبة، والجماعة الإسلامية أضعف تنظيماً وأكبر انفتاحاً والمجتمع المدني أكثر حيوية، بيد أن دواعي الخوف والقلق من فشل التجربة الديمقراطية الوليدة قائمة لدى النخبة التونسية التي هي دون شك من أبرع النخب العربية وأوسعها ثقافة وارتباطاً بالمجتمعات العالمية الحديثة. أحد المثقفين التونسيين لخص لي الوضع بقوله: مع بورقيبة في تسلطيته كان أملنا في تحديث قسري سريع يفضي تلقائياً إلى مجتمع ديمقراطي صلب، ومع بن علي في ديكتاتوريته آمنا بوهم المعجزة الصينية أي ازدهار دون حرية، واليوم نخشى أن يضيع الحلم الديمقراطي الوليد الذي دفعنا ثمنه غالياً.