على رغم التطورات الهائلة التي شهدها الطب الحديث خلال العقود القليلة الماضية، لا يزال 80 في المئة من سكان بعض الدول الآسيوية والأفريقية، يعتمدون على الطب التقليدي أو الشعبي، في تلبية احتياجاتهم من الرعاية الصحية الأولية، وخصوصاً طب الأعشاب الذي تتخطى حالياً ممارساته ومبيعاته مليارات الدولار سنوياً. وبخلاف هذا الحجم الاقتصادي الهائل، يمكن أيضاً إدراك أهمية طب الأعشاب في القرن الحادي والعشرين من حقيقة أن أكثر من 100 دولة حول العالم تقنن حالياً وتنظم ممارسات طب الأعشاب، كونها جزءاً لا يتجزأ من الممارسات اليومية الشائعة ضمن نظم الرعاية الصحية في تلك الدول. ومن السهل أيضاً إدراك أهمية مساهمات الطب الشعبي، وخصوصاً طب الأعشاب، في تاريخ الطب الحديث. فعلى سبيل المثال، اعتمد الطب الشعبي لقرون على منقوع لحاء شجرة الصفصاف للحصول على حمض «الساليسيليك»، المكون الأساسي للأسبرين الحديث، في علاج الصداع، والحمى، والآلام المختلفة، وهو ما كتب عنه بالتفصيل الطبيب اليوناني الشهير «أبوقراط» في القرن الخامس قبل الميلاد. وتحتل الملاريا مكانة خاصة في تاريخ طب الأعشاب، حيث اعتمد أول علاج فعال ضد هذا الطفيلي القاتل على منقوع لحاء شجرة «الكينا» لاستخراج مادة «الكوينين»، وهي الوسيلة التي كان يعتمد عليها سكان «بوليفيا» و«بيرو» لقرون، قبل وصول المبشرين المسيحيين في القرن السابع عشر، ونقلهم لهذه الشجرة ولتلك المعرفة إلى أوروبا وبقية دول العالم. واستمرت علاقة الملاريا بالطب الشعبي لتكتب مرة أخرى قصة واحدة من أكثر قصص علم اكتشاف الأدوية إثارة في العصر الحديث. ففي عقد الستينيات من القرن الماضي، أطلق الجيش الصيني مشروعاً سرياً، لاكتشاف علاج مناسب للملاريا، بالاعتماد على ممارسات الطب الصيني التقليدي. وبالفعل شرع العلماء الصينيون في اختبار وتجربة حوالي 5 آلاف عشب يستخدمها ممارسو الطب الصيني، لتكتشف إحدى العالمات في الفريق عام 1972، وجود مادة فعالة في أحد الأنواع الخاصة لنبات الشيح (Artemisia annua)، كان يستخدم لعلاج الملاريا في الصين بالفعل منذ ألفي عام تقريباً. ووصف هذا العقار حينها بالعقار المعجزة، بسبب سرعته شبه الخارقة في المساعدة على التخلص من الطفيلي، بشكل يتخطى سرعة أي عقار سابق أو لاحق من عقاقير علاج الملاريا الأخرى. وعلى رغم أن الصينيين لم يكشفوا للعالم عن هذا العقار إلا بعد عدة أعوام من اكتشافه، إلا أنه أصبح حالياً من أهم الأدوية في مكافحة الملاريا، إلى درجة أن العالمة الصينية التي اكتشفته منحت إحدى الجوائز الطبية المرموقة، بل يقال إنها قد ترشح لجائزة نوبل للطب بسبب أهمية اكتشافها في دعم الجهود الدولية لمكافحة الملاريا. ويمكن النظر للطب الشعبي على أنه خلاصة المعرفة، والمهارات، والممارسات المعتمدة على نظريات، ومعتقدات، وخبرات السكان الأصليين المنتمين لثقافات مختلفة، والتي كانت تستخدم للحفاظ على الصحة، بالإضافة إلى تحقيق تشخيص، وعلاج الأمراض البدنية والنفسية، والوقاية منها. ويختلف مصطلح الطب الشعبي أو التقليدي عن مصطلح الطب التكميلي أو الطب البديل، الذي هو في الحقيقة طب شعبي أو تقليدي، تم تبنيه واستخدامه من قبل ثقافة ومجتمع مختلفين عن الثقافة والمجتمع اللذين نشأ فيهما أصلاً. فإذا ما استخدمت ممارسات الطب الصيني التقليدي أو الطب الهندي، في أوروبا أو الولايات المتحدة، تصبح حينها ممارسات طب بديل أو تكميلي. وكما ذكرنا سابقاً، يعتمد 80 في المئة من سكان بعض الدول الآسيوية والأفريقية على توفير احتياجاتهم من الرعاية الصحية على الطب التقليدي، وحتى في الكثير من الدول المتقدمة، يستخدم ما بين 70 و 80 في المئة من السكان شكلا أو آخر من أشكال الطب البديل أو التقليدي، كالوخز بالإبر الصينية مثلا. وإن كان العلاج بالأعشاب يعتبر أكثر ممارسات الطب التقليدي شيوعاً، وهو ما أدى إلى أن تصبح الأعشاب الطبية تجارة دولية رائجة، يبلغ حجمها في الصين وحدها 14 مليار دولار سنوياً، وفي دول أوروبا الغربية أكثر من 5 مليارات دولار، وبناء على هذه الأرقام، يمكن التخمين بأن مجمل حجم التجارة الدولية في منتجات طب الأعشاب يصل إلى عشرات المليارات من الدولارات. وللأسف فقد أدى هذا الطلب العالمي الهائل على منتجات الأعشاب الطبية إلى لجوء البعض للغش، وتزوير تلك المنتجات، أو تغيير وتبديل مكوناتها، وهي كلها ممارسات تضع أمن وسلامة المستخدمين في خطر شديد. وتتعرض ممارسات الطب التقليدي بوجه عام، ومنتجات طب الأعشاب بوجه خاص، لمشكلة فريدة، تتلخص في قلة وندرة الأدلة العلمية من نتائج الدراسات والاختبارات، القادرة على تقييم فعالية وأمن هذه الممارسات، أو تلك المنتجات. ففي الوقت الذي تتوافر فيه بعض الأدلة على فعالية الوخز بالإبر الصينية، أو بعض الأعشاب الصينية، أو أساليب العلاج اليدوية بالتدليك مثلا، في علاج بعض الحالات المحددة، لا تتوافر أدلة مماثلة على سلامة وأمن أو فعالية الغالبية العظمى من ممارسات الطب التقليدي ومنتجات طب الأعشاب، وهو ما يجعل من الضروري مقاربة هذه الممارسات وتلك المنتجات بالكثير من الحذر والشكوك، إلى أن تثبتها أو تنفيها الدراسات والأبحاث الطبية.